مصطفى صلاح يكتب: جمال العدل.. نور الملتقى
في لحظة تبدو كأنها مقتطعة من ضوءٍ قديم، وقف جمال العدل على منصة ملتقى التميز والإبداع، لا بوصفه مجرد منتج نال جائزة أحسن إنتاج عن مسلسل حارة اليهود، بل بوصفه حاملًا لمشروع ثقافي يشبه النبض الخفي الذي يحرك وجدان مصر حين تقرر أن تنظر إلى مرآتها بصدق، من دون تزييف أو رتوش. كان المشهد أكبر من جائزة، وأكبر من احتفال؛ كان إعلانًا بأن هناك رجالًا لا يزالون يقفون في مواجهة التفاهة، حراسًا لشرف المهنة ومعنى الفن ورسالة الدراما.
جمال العدل على المنصة كان يشبه إضاءة كاشفة تُسلّط على رجل يعرف أين يضع قدمه، ويعرف أن الفن ليس تجارة تُباع في المزاد، بل مسؤولية تتعلق بالهوية والذاكرة والجغرافيا البشرية. هو ابن من أبناء الشخصية المصرية الأصيلة، التي لا تحتمل تشويهًا ولا تحريفًا. شخص يعمل بصمت لكنه يترك أثرًا أقوى من الضجيج، ويبني بحبات الرمل ما يهدمه غيره بأطنان من الصخب.
حين قدّم حارة اليهود لم يكن يعيد تمثيل حكايات من الماضي، ولم يكن يجترّ ذاكرة باهتة. كان يفتح نافذة على جزء مطموس من التاريخ الاجتماعي المصري، ليقول إن هذا الوطن عرف التعدد قبل أن تُخلق الصياغات السياسية، وعرف التعايش قبل أن تتسلل إليه النزاعات المستوردة. كان المسلسل مشروعًا معرفيًا كاملًا، يرصد تغيّر الإنسان المصري عبر التحولات الكبرى، ويعيد تركيب صورته في لحظات أصبحت فيها الهوية معرّضة للتشويه من كل اتجاه.
إن قدرة جمال العدل على تحويل مسلسل درامي إلى وثيقة وعي، ليست قدرة إنتاجية فقط، بل قدرة على قراءة روح مصر، وعلى فهم القيم التي تشكّلها. هو من أولئك الذين يعرفون أن الفن لا قيمة له إن لم يكن صاحب رسالة، وأن الإنتاج ليس عبارة عن توفير أموال واستقطاب نجوم، بل هو صناعة وعي ونسج ذاكرة وصياغة ضمير جمعي. وهذا ما جعل أعماله دائمًا تشبه جغرافيا مصر نفسها: متنوعة، ثرية، كثيفة، مشبعة بروح الوطن.
تكريم جمال العدل في الملتقى لم يكن تكريمًا لشخص، بقدر ما كان تكريمًا لفلسفة وفكرة. كان اعترافًا بأن الدراما لا تزال قادرة على أن تحمل هوية الأمة وتروي قصتها من دون أن تنجرّ إلى الإسفاف أو تنحني أمام سوق الجذب الرخيص. كان إعلانًا لأن ما يُقدَّم بضمير يبقى، وما يُصنع من أجل المكسب العابر يتبخر في الهواء.
يعرف جمال العدل أن الإنتاج الحقيقي ليس حضورًا على الشاشة بقدر ما هو غياب محسوب خلف الصورة. فالصانع الحقيقي لا يقف وسط الكادر، بل يقف في الخلف، يدفع العمل إلى الأمام ويختفي، تاركًا أثره يتحدث عنه. سنوات طويلة ظل العدل يحرس الذائقة المصرية، يناضل ضد الابتذال، ينقّي الشاشة من التفاهة، ويختار أعماله بعناية أشبه بعناية الناسك الذي يختار كلماته لأنه يعلم أنها ستُصبح جزءًا من ذاكرة الناس.
حارة اليهود بالذات كان خطوة جريئة، لأنه اقترب من منطقة شائكة، لكنه قدّمها بميزان وطني لا يحيد. لم يكن العمل استفزازيًا ولا تجميليًا، بل كان محاولة لاستعادة حقيقتنا كما هي، بلا مبالغة أو تهوين. لذلك لاقى المسلسل احترامًا واسعًا، ووُضع في مكانة خاصة داخل مكتبة الدراما المصرية الحديثة. وقد كان ذلك ثمرة رؤية إنتاجية تعرف أن الفن مسؤولية وطنية.
ولهذا السبب جاءت الجائزة لتقول شيئًا أكبر: إن مصر حين تختار من تكرمه، فإنها تختار من عرف قدرها ورفع رايتها وصان صورتها أمام العالم. تلك الجائزة ليست نهاية بل بداية جديدة، لأنها تعيد تذكير الوسط الفني بأن الإنتاج ليس مهنة سهلة، وأن الشرف المهني لا يُكتسب بالكلام وجلسات الإعلام، بل بالعرق والصبر والسعي الدائم لأن يكون العمل على قدر الوطن.
لم يكن جمال العدل يومًا من أصحاب البهرجة أو الضجيج، ولم يتخذ من نفسه بطلًا خارقًا. لكنه كان دائمًا رجلًا يعرف أن قيمة الفن تقاس بما يتركه من بصمة في الوعي. رجل يقف ثابتًا أمام العواصف، يحافظ على خط الإنتاج الجاد في وقت كانت فيه الدراما قاب قوسين من أن تتحوّل إلى سوق فوضوي. هو من أولئك الذين يثبتون أن وجود شخص واحد مخلص يمكن أن يغير اتجاه المشهد كله.
ولذلك بدا تتويجه وكأنه عودة للمعنى، لا مجرد احتفال. رسالة واضحة بأن الطريق إلى الفن الحقيقي لا يزال موجودًا، وأن هناك من يسير فيه بثبات، مهما اشتد الظلام. لقد كان وقوفه على المنصة إعلانًا بأن مصر لا تزال تحتفي بأبنائها الذين لا يتلونون، وأن قيمة العمل تفرض نفسها ولو طال الزمن.
إن جمال العدل، بهذا الحضور النظيف والرصين، بهذا الإيمان بأن الفن يمكن أن يكون أقوى من السياسة والضجيج والادعاء، أضاء الملتقى كما أضاء الدراما المصرية لعقود. صار علامة على أن الإنتاج الجيد ليس ترفًا، بل ضرورة من ضرورات بقاء الوعي الوطني.
ولذلك، فإن لقب "نور الملتقى" ليس مجرد عنوان، بل حقيقة تُثبتها السنين. هو نور لأنه يعرف الطريق، ولأنه يمشي فيه بثبات، ولأنه كلما قدّم عملًا جعل الناس يرون أنفسهم في مرآته بشكل أعمق وأكثر صدقًا. هو نور لأنه لا ينطفئ، ولأن أثره لا يُمحى، ولأن الفن الذي يقدمه يشبه مصر: صادقًا، عميقًا، شامخًا، لا يلين.
وهكذا، فإن تكريم جمال العدل لم يكن مجرد لحظةٍ عابرة، بل كان لحظة تتويج لرجل حمل شعلة الفن المصري في أصعب المراحل، وظل يحملها حتى صارت جزءًا من ملامحه. رجل يجسد فكرة أن الإبداع ليس مهنة، بل قدر. وأن الوطن لا يزال بخير، ما دام فيه من يعرف قيمة الفن ويحميها.