صادق الصبّاح… روح الصناعة في بيت «الصبّاح إخوان»
حين يُذكَر اسم صادق الصبّاح، يحضر إحساسٌ خاص بأن الصناعة الدرامية ليست مجرد مشروعٍ اقتصادي، بل صياغة دقيقة لحياةٍ كاملة؛ وأن المنتج الحقيقي هو الذي يعرف كيف يمزج بين الحسّ الفني وحسابات الإنتاج، دون أن تطغى واحدة على الأخرى. ولعل هذا التوازن النادر هو سرّ المكانة التي حازها الصبّاح، منتجًا عربيًا من طرازٍ رفيع، ينسج أعماله كما لو كان صائغًا يطرق الذهب حتى يلمع.
منذ خطواته الأولى، أدرك الصبّاح أنّ الإنتاج ليس دفاتر أرقام فقط، ولا توقيعات عقود فحسب، بل منظومة واسعة تبدأ من لحظة اختيار النص ولا تنتهي عند عرض الحلقة الأخيرة. ولذلك، حرص أن تكون عملية الإنتاج عنده سلسلة مترابطة، لكل حلقةٍ فيها وزن ومعنى. يختار النص بعين عاشقة للحكاية، ويضع الميزانية بميزانٍ يعرف كيف يقسّم الثقل، ثم يسند الأدوار لممثلين يؤمن أنهم قادرون على حمل العمل على أكتافهم.
ولأن الإنتاج عنده فعلُ رؤية، لم يتردد يومًا في الاستثمار في الأفضل. لم يذهب إلى الحلول السهلة، بل بحث دائمًا عن عملٍ متكامل يحترم جمهورًا واسعًا من المحيط إلى الخليج. ولذلك، أصبحت شركته "صبّاح إخوان" واحدة من أهم المؤسسات الإنتاجية التي أعادت رسم خريطة الدراما العربية، ووفّرت نموذجًا قادرًا على الجمع بين الجودة والانتشار والحضور الثقافي المتين.
يعرف الصبّاح أن الصناعة الدرامية لا تنجح بالحدس وحده، بل بالمهنية والانضباط، فاختار أن يكون قريبًا من تفاصيل العمل، من حركة الكاميرا مرورًا بجلسات القراءة ووصولًا إلى أصغر قرار إنتاجي. كان يحضر بروح الأب لا المراقب؛ روحٌ تجعل الممثلين يشعرون بأنهم يعملون في بيتٍ لا في مؤسسة، وأن المنتج ليس سلطة عليا بل شريكًا في الحلم. ولهذا، تحوّل المناخ الإنتاجي في أعماله إلى أرضٍ خصبة للإبداع، حيث يطمئن المخرج إلى أن وراءه رجلًا يعرف قيمة الوقت وقيمة الفكرة وقيمة الجودة.
وفي مشروعاته، لم يعتمد الصبّاح على نجمٍ واحد يضمن الانتشار، بل بنى منظومة متكاملة. وزّع البطولة بذكاء، قدّم وجوهًا جديدة، دعم مخرجين شباب، ومنح فرصة الظهور لأسماء كانت تحتاج فقط إلى من يضيء لها الطريق. لم يكن الإنتاج عنده رهينة لصوت السوق، بل كان سوقًا يصنعه بنفسه، يفتح فيه أبوابًا جديدة ويخطّ فيه مسارات لم تكن موجودة.
ولأن الدراما تحتاج إلى بيئات إنتاجية قوية، لم يتردد في الاتجاه إلى التصوير الخارجي، وإلى بناء مواقع تشبه الواقع بدقّة. أنفق بسخاء على التفاصيل، لأنه يعرف أن المشاهد يرى ما لا يُقال، ويلمس ما لا يُكتب. ومن هنا، جاءت مسلسلاته إرثًا بصريًا متقنًا، تتكامل فيه الصورة مع الأداء والديكور والموسيقى، لتنتج عملاً متماسكًا لا ينهار عند أول امتحان.
ومع مرور السنوات، أصبح الصبّاح يجيد قراءة الجمهور كما يجيد قراءة الأرقام. يعرف متى يغامر ومتى يهدأ، ويعرف أن السوق العربي واسع، لكنه حساس، يحتاج إلى أعمال تحترم ذائقته ووعيه. ولذلك، حافظ على خط إنتاجي ثابت، لا يسقط في الابتذال ولا ينجرّ وراء الموجات القصيرة. كان يراهن دائمًا على الدراما العميقة التي تحمل معنى، وعلى المسلسلات التي تملك قدرة على البقاء في الذاكرة، لا تلك التي تنطفئ بانطفاء الموسم.
ولم تكن علاقته بالممثلين علاقة مهنية باردة. كان يعرف أن نجاح أي عمل يبدأ من احترام طاقة الفنان وإعطائه المساحة الكافية ليكبر داخل الشخصية. وفّيًّا لنجومه، داعمًا لخطوتهم التالية، وملتزمًا بحقوقهم، حتى أصبح العمل معه علامة ثقة في الوسط. ومن هنا، بات كثير من النجوم يعتبرون وجود اسم "الصبّاح" في أي عمل بمثابة شهادة أمان تضمن جودة الإنتاج ورقيّ المعاملة.
ومع الأزمات التي ضربت المنطقة، واهتزاز صناعة الدراما في أكثر من بلد، بقي الصبّاح ثابتًا، يدير شركته بحكمة التاجر القديم وبشجاعة الفنان المعاصر. فتح أبواب التعاون بين لبنان ومصر وسوريا والخليج، وجعل من الدراما المشتركة نموذجًا يحتذى، يوسّع السوق ويزيد من قوّة العمل العربي في وجه الهيمنة الأجنبية.
ورغم نجاحاته المتتالية، ظل الرجل بعيدًا عن الضوضاء. يعمل بصمت، يضع لمساته من خلف الستار، ويترك للمشاهد أن يرى النتيجة. ربما لهذا السبب يحمل اسمه هالة من الاحترام، لأن خلفه منظومة عمل نظيفة، متقنة، تحترم المهنة ولا تفرّط في قيمتها.
واليوم، حين تُعرض أعماله في موسمٍ درامي، يشعر الجمهور بأن هناك وعدًا بالجودة، وأن هناك يدًا ستضع الإبداع في مكانه الصحيح. هو المنتج الذي لا يترك شيئًا للصدفة، ولا يكتفي بالنجاح كسردية عابرة، بل يعيد بناء النجاح موسمًا بعد موسم، وكأنه يصوغ كل مرة ذهبًا جديدًا من خامٍ قديم.
صادق الصبّاح ليس مجرد اسمٍ لامع في قائمة المنتجين العرب، بل تجربة إنتاجية ناضجة، استطاعت أن توازن بين السوق والفن، بين الانتشار والجودة، بين الحلم والواقع. هو رجلٌ أدرك باكرًا أن الدراما ليست وسيلة لتعبئة الوقت، بل وسيلة لتعبئة الروح، وأن الإنتاج الحقيقي ليس ضجيجًا بل دقّة هادئة تشبه خطوات من يعرف طريقه جيدًا.
ولهذا، سيظل اسمه واحدًا من الأسماء التي صنعت للدراما العربية قوامها الحديث، وشيّدت لها جسرًا تعبر عليه نحو مستقبلٍ أكثر رسوخًا ووضوحًا، جسرًا يبدأ من بيروت… ويمتدّ حتى آخر بيتٍ عربي يشاهد عملًا يحمل توقيعه.