مصطفى صلاح يكتب: محمود سعد الدين.. سيرة الصعود الهادئ من قلب الطين إلى ضمير الكلمة
في القرى المصرية، لا يُصاغ الإنسان بالكلام، بل بالفعل. هناك، حيث الحياة تُقاس بالعمل اليومي، وحيث الصبر ليس فضيلة زائدة بل ضرورة بقاء، تتشكل الشخصيات على مهل، وتخرج متماسكة، واضحة القسمات، قليلة الادعاء. من هذا العالم خرج محمود سعد الدين، لا باعتباره حالة فردية منفصلة، بل بوصفه امتدادًا طبيعيًا لنسق أخلاقي راسخ، يعرف قيمة الجهد، ويضع الاستقامة في موضعها الصحيح.
لم يبدأ الطريق من قاعات التحرير، ولا من مقاعد الواجهة، بل من الأرض. من كلية الزراعة، حيث يتعلم الطالب أن كل ثمرة لها موعد، وأن العجلة لا تُعجّل بالنضج بل تفسده. وهذه التجربة لم تكن مرحلة عابرة في سيرة محمود سعد الدين، بل كانت حجر الأساس لفهمه الحياة والمهنة معًا. فمن عرف قوانين الزرع، يدرك أن العمل الحقيقي صامت، وأن النتائج لا تأتي صاخبة، بل ثابتة.
وحين دخل الصحافة، دخلها بلا افتعال. لم يحمل معها أوهام النجومية، ولا تصورات سريعة عن الصعود. دخلها كما يدخل الحرفي ورشته: متعلمًا، مراقبًا، حريصًا على ألا يكسر الأداة قبل أن يتقن استخدامها. ومع مرور السنوات، وتنقله بين مؤسسات إعلامية متعددة، تبلورت ملامح صحفي يعرف دوره بدقة. لا يتقدم خطوة إلا وهو مدرك لتبعاتها، ولا يكتب سطرًا إلا وهو واعٍ بما يحمله من مسؤولية.
الصحافة، عند محمود سعد الدين، ليست منصة للضجيج، بل مساحة للفهم. ليست حلبة صراع، بل أداة تفسير. ولذلك ظل منحازًا إلى الهدوء، وإلى احترام عقل القارئ، وإلى أداء المهنة بوصفها خدمة عامة لا مجال فيها للاستعراض. وهذا ما جعله يحظى بتقدير مهني حقيقي، لا تصنعه العناوين الكبيرة، بل تصنعه الثقة المتراكمة.
ولا يمكن فصل هذا المسار عن البيت الذي نشأ فيه. بيت الحاج عبد الحميد سعد الدين، رحمه الله، لم يكن بيت سلطة أو جاه، بل بيت نظام صارم. نظام يرى في العمل قيمة عليا، وفي الكلمة عهدًا، وفي السلوك اليومي مرآة الإنسان الحقيقية. وإلى جانبه كانت السيدة إحسان سعد الدين، الأم التي أدارت البيت بصبر طويل، وعرفت كيف تزرع في أبنائها الإحساس بالمسؤولية دون خطاب مباشر أو وصايا ثقيلة.
هذا البيت لم يُنتج نجاحًا فرديًا معزولًا، بل أخرج نماذج متعددة، كل في مجاله، تحمل الروح نفسها: احترام العمل، وتقدير الجهد، والابتعاد عن الطرق المختصرة. ومن هنا تبدو تجربة محمود سعد الدين امتدادًا منطقيًا، لا قفزة مفاجئة.
في مسيرته المهنية، حافظ على مسافة محسوبة من الجميع. لم يكن صداميًا، لكنه لم يكن متنازلًا. اختار طريقًا بالغ الصعوبة: أن يظل مهنيًا، وأن يحتفظ بموقفه دون أن يتحول إلى طرف. وهذه المعادلة لا ينجح فيها إلا من امتلك يقينًا داخليًا، لا يستمد قوته من التصفيق، ولا يتراجع عند أول ضغط.
وعلى المستوى الإنساني، تكتمل الصورة. زواجه من الصحفية همت سلامة لم يكن مجرد اقتران اجتماعي، بل شراكة واعية بين عقلين يعرفان طبيعة العمل الصحفي، ويُدركان كلفته النفسية والوقتية. بيت قائم على التفاهم، لا على الاستعراض، وعلى الدعم المتبادل، لا على التنافس. ومن هذا البيت جاء طفلان، لا بوصفهما إضافة شكلية للسيرة، بل بوصفهما امتدادًا للمعنى.
ما يميز سيرة محمود سعد الدين أنها لا تُختصر في منصب، ولا تُحبس داخل اسم مؤسسة. هي سيرة تراكم، وبناء بطيء، وحضور يتشكل على مهل. سيرة تؤكد أن الصعود الهادئ قد يكون أكثر ثباتًا من القفز السريع، وأن النجاح الحقيقي هو ذاك الذي لا يفرض على صاحبه أن يتخلى عن نفسه.
إن الإشادة بمحمود سعد الدين ليست احتفاءً بشخص بقدر ما هي اعتراف بقيمة نموذج. نموذج يثبت أن الصحافة ما زالت قادرة على إنجاب مهنيين حقيقيين، يعرفون الفرق بين الخبر والضجيج، وبين الرأي والادعاء، وبين الظهور والحضور.
وتبقى هذه السيرة، بكل تفاصيلها الهادئة، شهادة على أن الطريق الطويل، حين يُسلك بصدق، يصل بصاحبه. وأن الكلمة، إذا خرجت من ضمير حي، تظل واقفة، لا تهزّها تقلبات المشهد، ولا تُسقطها كثرة الأصوات.