الكاتب الصحفي خيري حسن يكتب: "هيكل" يسأل عن شفرة "وابور الجاز" في حادث المنشية..و"الجاني يتكلم"
فى صباح يوم 30 أكتوبر سنة 1954 صدرت صحيفة أخبار اليوم الأسبوعية بمانشيت رئيسي يقول: " الجانى يتكلم " - (لاحظ بلاغة، وسلاسة، وبساطة العنوان) - أما الجانى الذى سيتكلم فهو محمود عبد اللطيف الذى حاول اغتيال جمال عبد الناصر فى ميدان المنشية بالإسكندرية.
وأما الصحفى الذى دخل إليه الزنزانة فى السجن الحربي وجعله يتكلم فهو الصحفى الشاب - وقتها - محمد حسنين هيكل.
يقول هيكل فى مقدمة اللقاء بأسلوب تصويري، تسجيلى، توثيقى، عبقرى من الناحية الفنية، والسردية، والبلاغية:
"قابلت محمود عبد اللطيف الذى وجه إلى جمال عبد الناصر ثمانى رصاصات فى ميدان المنشية..قابلته على ضوء الشموع؛ لأن أسلاك الكهرباء فى سجن البوليس الحربي كانت قد أصيبت بخلل وساد الظلام! وبدا وجهه على ضوء الشموع غريباَ عجيباً" ثم يكمل لنا الوصف والرسم قائلاً:
" كان شعر رأسه هاشاً، ولم يكن ذقنه حليقاً، وكانت فى عينيه نظرة زائغة ضائعة، وكان لا يزال يرتدى نفس الملابس التى ارتكب بها جريمته"!
ثم يصف لنا هيكل هذه الملابس قائلاً: كانت" قميص أزرق مخطط بخطوط بيضاء، وقد شمر أكمام القميص..وبنطلون أزرق اللون، وكانت يداه مقيدتين بالحديد خلف ظهره، وجلس على مقعد".
ثم ينقل لنا هيكل صورة الوضع الذى كان عليه المتهم قائلاً:
" وبدأ يتخذ الوضع الذى يريحه، ويداه إلى الوراء، (وتحركت يداه ) ولمحت أصابعه وتأملتها على ضوء الشموع المرتعشة"!. ثم يصل بنا هيكل إلى اكتشاف سيأخذنا إلى نتيجة مبهرة بعد ذلك عندما يكمل قائلاً:" كانت هناك ظلال مقبضة على هذه الأصابع، لمحت آثار ندب قديم"
وهنا سأله هيكل وهو يشير للندب:" ما هذا؟
رد المتهم:" كنت أتدرب على ضرب المسدسات فانطلقت رصاصة خاطئة ( لم تخرج من الفوهة بل خرجت من الوراء وأصابت شظاياها أصابعى"!
ويستمر هيكل فى وصف ونقل تلك الصورة التسجيلية، السينمائية، وكأنه يرسم لوحة بالكلمات الوصفية من داخل الزنزانة للمتهم إلى أن يصل إلى سؤاله التالى للمتهم:
-- " أنت بتشتغل إيه؟
رد المتهم:" بصلح وابورات جاز"!
وبعد هذا السؤال التقليدى يذهب هيكل إلى سؤال آخر لا أظن لو كان مكانه صحفى آخر كان سيجول بذهنه والسؤال وأن كان يبدو بسيطاً لكنه فى قمة الذكاء والعبقرية - حيث سأله:
"وهل تذكر آخر وابور جاز صلحته"؟
رد المتهم:" نعم قبل الحادث بيومين..وكان الوابور ملك أحد الجيران اسمه محمد سليمان ويعمل نقاشاً. وكان قد أعطانى الوابور لإصلاحه فتركته للصبى، ولكن الصبى لم يحسن إصلاحه فأعاده صاحبه لأصلحه من جديد"!.
سكت هيكل قليلاً ونظر إلى الأوراق التى بين يديه وسأله:"وبينما أنت تصلح وابور الجاز كنت تدرس اتفاقية الجلاء؟ أليس كذلك؟!
( كان المتهم قد قال فى بداية حديثه أنه اطلق الرصاص على جمال عبد الناصر بسبب اتفاقية الجلاء - جلاء الانجليز - لأنها حسب فهمه ستعيد الانجليز إلى احتلال مصر من الإسكندرية إلى أسوان إذا حدثت حرب فى كوريا الجنوبية!)
فرد المتهم على هيكل قائلاً:
" كنا ندرسها معاً"! و(معاَ هنا) كان يقصد بها المتهم إخوانه الذين اشتركوا معه بالتفكير، والتمويل، والتدبير للجريمة، وليس المقصود بها( وابور الجاز) طبعاَ!
أما حوار هيكل مع حسن الهضيبى المرشد العام - حينذاك - فى نفس القضية داخل السجن بحضور أحمد أنور قائد البوليس الحربي ومعهم - على الهاتف المنزلى - السيدة زوجة الشيخ الهضيبي ( وكان رقمه 27024 ) فهو حديث فى حد ذاته يصلح فيلماً تسجيلياً مدته 15 دقيقة على الأقل، حيث استخدم فيه هيكل - أيضاً - كل فنون الكتابة الصحفية، والبلاغة اللفظية، والقصة السردية، والصورة السينمائية بطريقة مبتكرة، وموضوعية مبهرة.. وسوف تجد فيه - هذا إذا عدت أنت للحوار فى الأرشيف الصحفى - أو عدت أنا للكتابة عنه - سؤال - وربما أكثر من سؤال - أذكى من سؤال هيكل للمتهم الأول محمود عبد اللطيف - الذى قال له فيه:
" وهل تذكر آخر وابور جاز صلحته"؟!ا
- الأحداث حقيقية .. والسيناريو من خيال الكاتب.
الصور:
- هيكل
- الجانى محمود عبد اللطيف
- المصدر:
- صحيفة أخبار اليوم - عدد 30 أكتوبر - 1954
- كتاب:" سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر - شهادة سامى شرف - الكتاب الرابع - الطبعة الثانية - 2015