السفير الدكتور عادل عيد يوسف يكتب: المصري في الخارج «مستثمر غائب في اقتصاد لا ينتظره»

أبريل 10, 2025 - 18:46
السفير الدكتور عادل عيد يوسف يكتب: المصري في الخارج «مستثمر غائب في اقتصاد لا ينتظره»

في كل يوم، يستيقظ الملايين من المصريين في الخارج ليخوضوا غمار معركة عمل لا تنتهي. طبيب في الخليج، مهندس في كندا، فني في ألمانيا، وأستاذ جامعي في أمريكا. جميعهم حملوا معهم ما صنعته مصر : العقل، والمثابرة، والخبرة. لكن المفارقة العجيبة أن الدولة التي مولت تعليمهم، والتي قدمت لهم الخدمات الصحية، والتي صاغت وجدانهم منذ الطفولة... لا تجني من نجاحهم سوى تحويلات بنكية.

تحويلات تعد في ظاهرها نعمة، لكنها في باطنها تنفق على أسوأ وجه. تصبّ في العقارات الفاخرة، تحبس في شقق خاوية، ويستقر معظمها في جيوب المطورين العقاريين. فهل يصح أن يعمل المصري في الخارج عشرات السنوات فقط ليشتري شقة لا يسكنها، ويُغني مطورا" عقاريا" لا يعرفه؟

بحسب أحدث بيانات البنك المركزي المصري، فقد بلغت تحويلات المصريين بالخارج نحو 29.6 مليار دولار في عام 2024، بزيادة تقترب من 51.3% عن عام 2023. هذا الرقم يتجاوز دخل قناة السويس بأضعاف، و يوازي الناتج المحلي لاقتصادات نامية بأكملها. ومع ذلك، فالناتج من هذه التحويلات محدود التأثير: لا مصانع، لا شركات، لا وظائف، بل مجرد أبراج سكنية ترتفع، ومعدلات إنتاجية لا تتحرك.

دعونا نقارن بالبرازيل : يبلغ عدد الجالية البرازيلية بالخارج حوالي 4.9 مليون نسمة «نصف عدد المصريين تقريبًا»، لكن تحويلاتهم في عام 2023 لم تتجاوز 4.96 مليار دولار. والسؤال المهم هنا : أين الفرق؟ ولماذا لم نقل «المصريين أولى بالأفضلية» ؟ الفرق أن البرازيل نجحت في توجيه نسبة معتبرة من تحويلات أبنائها نحو أدوات إنتاج حقيقية، مثل صناديق التنمية والبنية التحتية. لم تترك أموال المغتربين حبيسة العقارات، بل جعلتها شريانا" في جسد الاقتصاد.

لو تأملنا الصورة من الاعلى لوجدنا أن المصري المغترب قد حول الدعم الذي تلقاه في العشرين عامًا الأولى من حياته، إلى حساب بنكي لمطور عقاري. وهنا السؤال الجوهري : هل من العدل أن تمول الدولة تعليم هذا المواطن دون عائد؟ وهل من الحكمة أن يستنزف الاقتصاد كل هذه العقول، فقط ليخدم قطاعا لا ينتج إلا الطوب؟

ثمة ثلاث حلول لا بد من طرحها، لا كخيارات نظرية، بل كخطوات شجاعة لإنقاذ الثروة التي تتبخر بين أيدينا. أولها، أن يعاد النظر في العلاقة المالية بين الدولة ومواطنيها في الخارج عبر فرض رسم سنوي رمزي، يتناسب مع دخل المغترب، لا يثقل كاهله، ولكنه يعيد شيئًا من التوازن إلى منظومة غير عادلة. ولا يفرض هذا الرسم عقوبة، بل التزاما حضاريا"، يضمن للمتغرب خدمات متميزة حين يعود، وتسهيلات تعليمية و تأمينية لأسرته داخل الوطن، وربما فرصا" استثمارية موجهة بذكاء.

أما ثاني الحلول، فهو تحويل الدعم التعليمي إلى دين تنموي طويل الأجل. ليس إلغاء للمجانية، ولكن تدويرا" ذكيا للتمويل. أن يعتبر التعليم العالي قرضا رمزيا، لا يسدد إلا بعد العمل والوصول إلى دخل معين. يدفع تدريجيًا، وعلى سنوات، فيساهم كل مهندس وطبيب و مبرمج في دعم الجيل التالي، ويستمر نهر الكفاءة في التدفق.

 فمن غير المعقول أن تنفق الدولة عشرات الآلاف على طالب، ثم تهنئه على الهجرة، و تطوي صفحته إلى الأبد.

أما جوهرة التاج في هذه المنظومة، فهي تأسيس صندوق استثماري بالدولار موجه خصيصا للمصريين في الخارج، ليس بغرض الجباية، بل بغرض الشراكة. صندوق يدار باحتراف، و يعرض للمغترب كخيار استثماري آمن، يجمع بين العائد المجزي والانتماء الوطني. يحتوي هذا الصندوق على مجموعة متنوعة من الأدوات: سندات مصرية دولارية بعائد مرتفع، يورو بوند متداولة دوليا"، استثمارات مضمونة في التأمينات الحكومية، مشروعات بنية تحتية مدروسة، أسهم في بنوك وشركات وطنية، وبورصة سلع وطاقة وعملات.

الغرض من هذا الصندوق ليس مجرد ربح، بل إعادة إدماج رأس المال العائد في الدورة المالية لمصر. أن تدخل هذه المليارات في النظام الرسمي، فتُضخ في مشروعات، و تقرض لمستثمرين، و ترفع بها قيمة سندات مصر في الخارج. عندها فقط، يبدأ التصنيف الائتماني المصري بالصعود، و تدرج سنداتنا في مؤشرات التداول العالمية، وتتحول تحويلات المصريين من أموال عابرة إلى أصول متداولة.

ما يحدث الآن هو انفصال عاطفي واقتصادي. المغترب يرسل أمواله بدافع الحب والواجب، لكنها تذهب إلى شقق لا يسكنها، ولا تعود عليه أو على وطنه بأي فائدة. أما المقترحات الثلاثة، فتهدف إلى تحويل هذا الانفصال إلى تكامل ذكي: ضرائب رمزية تعيد التوازن، مساهمة تعليمية تضمن الاستمرارية، وشراكة استثمارية تخلق دورة مالية تثري الجميع.

حين يدمج المصري بالخارج في اقتصاد بلاده، ننتقل من مجرد «تحويلات» إلى «تدفقات»، ومن «عطاء فردي» إلى «شراكة وطنية». حين نربط العلم بالدين، و المغترب بالضريبة، والتحويل بالصندوق، نكون قد بدأنا في تحويل مصر من دولة تنتظر تحويلات، إلى دولة تعيد تدوير استثمارها في أعظم ثرواتها: أبناؤها في الخارج.

فالمغترب ليس رقما" في بنك، ولا صورة في جواز سفر، بل هو سهم يمكن أن يرفرف في سماء البورصة.. أو يسقط في بئر العقار. والاختيار بين أيدينا.