مصطفى صلاح يكتب: «عصام بسام» سيرة رجل يتقدّم بخُلُقه لا بصوته
عصام بسام ليس مجرد اسم يُقال، ولا حضورًا عابرًا تلتقطه الذاكرة ثم ينساه الزمن. هو كظل شجرة عتيقة في حارة قديمة، تعرف طريق الشمس قبل أن تشرق، وترتاح الأرض تحت جذورها قبل أن يلمس المطر أغصانها. هو ذلك الرجل الذي إذا مرّ، مرّ معه الصمت والسكينة، وإذا جلس، جلس معه الهدوء والاتزان. شخصية فوق الممتازة، لا تحتاج إلى ضجيج، ولا إلى إعلان، ولا إلى وسام يُعلق على صدرها. كل شيء فيها صامت، كل شيء فيها واضح، كل شيء فيها يحكي عن الإنسان الذي صقلته الحياة بعناية، واحتفظت له بصفاء نادر.
في حضوره، تهدأ الأصوات. الحديث حوله يصبح أرق، والقلوب أكثر انفتاحًا على الصفح والتسامح. دماثة خلقه ليست صفة يُستدعى ذكرها عند الحاجة، بل هي نَفَس دائم، كنسيم البحر الذي يدخل من نافذة قديمة في صباح شتوي، يملأ الغرفة بهدوء، بلا ضجيج، بلا شعور بالثقل. كل كلمة يقولها، وكل نظرة يلقيها، وكل حركة يقوم بها، تترك أثرها في النفوس، كالماء الذي يترك أثره على الحصى قبل أن يجف.
عصام بسام لا يرفع صوته ليُسمع، ولا يلوّح بالسلطة ليُفرض. هيبته تولد من الداخل، من التوازن الذي يعكسه، من الرحمة التي لا تحتاج إلى خطاب، ومن الحزم الذي لا يخفيه صمت طويل. هو رجل يعرف متى يضع كفه على قلب الغضب، ومتى يتركه ينزلق مع رقة الموقف، ومتى يُرجح ميزان العدالة، ومتى يمنح الآخر فرصة ليقف على قدميه. هذه دقة نادرة، تجعل كل من حوله يشعر بالارتياح، وكأن العالم كله قد صاغ من أجله، لكنه لم يشعر بذلك.
حديثه قليل، لكنه كثيف، كالنقوش على جدار معبد قديم. لا يطيل، ولا يكرر، ولا يترك فراغًا بلا معنى. إذا صمت، كان صمته أكثر بلاغة من الكلام، لأنه صمت واعٍ، صمت يعرف أنه يكمل ما تعجز عنه الجمل. صمته ليس هروبًا، ولا تجاهلًا، بل مساحة تمنح الآخرين أن يروا أنفسهم كما هي، بصدق، بلا رتوش، بلا تصنع. قوته لا تكمن في الصراخ، بل في السيطرة على ذاته، في ضبط الانفعال، في القدرة على الحزم دون قسوة، على القرار دون جرح، على التوجيه دون إذلال.
في تعامله مع الناس، هو من النوع الذي يضيف إلى المكان ولا يستهلكه. حضوره كالمطر الخفيف، يروي الأرض دون أن يغرقها، يجعلها خصبة للإنبات دون أن يترك أثرًا مزعجًا. يعرف قيمة الإنسان، يعرف متى يكون الحزم، ومتى يكون اللطف، ويعامل الجميع على قدم المساواة، فلا صغار ولا كبار عنده إلا بصدقهم وأخلاقهم. هذه المساواة ليست شعارات تُرفع، ولا قواعد مكتوبة، بل ممارسة يومية، تنساب مع خطواته، ومع كلماته، ومع نظرته التي تُقرأ من بعيد قبل أن تُسمع.
هو رجل ثابت، لا يتغير بتقلب المواقف، وجهه واحد، وسلوكه واحد، ولغته واحدة. لا أقنعة، لا تضارب، لا تناقض. حضوره مطمئن، يمنح من حوله وضوحًا، شعورًا بأن العالم قد يكون صالحًا، وأن الإنسان ما زال قادرًا على الثبات. كل ما حوله يصبح أكثر انضباطًا، أقل توترًا، وأكثر استعدادًا للاستماع، لأن وجوده يخلق جاذبية أخلاقية طبيعية، كما تفعل الجبال التي تعطي المكان وزنها، ولا تحتاج إلى أي إعلان عن عظمتها.
حتى في الغضب، يظهر حزمًا متزنًا، كالماء الذي يحيط بالصخرة دون أن يكسرها، كالنار التي تدفئ دون أن تحرق. يعرف أن القسوة قد تحسم موقفًا، لكنها لا تبني ثقة، وأن اللطف، إذا كان واعيًا، يصبح قوة عظيمة، يضعها في موضعها الصحيح، فلا ضعف، ولا استغلال. وهكذا، يصبح كل تصرف منه درسًا في ضبط النفس، وكل نظرة منه إشعارًا بالعدل، وكل كلمة منه جسرًا بين النفوس.
لهذا كله، لا يمكن وصف عصام بسام بأنه مجرد محترم أو مهذب، بل إنه شخصية فوق الممتازة. شخصيته تتكامل فيها الأخلاق مع الاتزان، والاحترام مع الحزم، والهدوء مع الحضور. شخصية تُقاس بما تتركه في النفوس من أثر صامت، عميق، وباقٍ، أثر يقول إن الإنسان حين يصفو خُلُقه، يصبح قيمة قائمة بذاتها، تتقدم بلا ضجيج، وتبقى بلا حاجة إلى تعريف، وتظل نورًا يلمع بصمت في الدروب المظلمة، كما ضوء القمر بين الأشجار في ليلة صافية، هادئ لكنه حاضِر، رصين لكنه ساحر، بسيط لكنه خالد.