د. أيمن إمام يكتب: الطب المنسى.. لماذا يعتبر الدعم الاجتماعى ركيزة أساسية فى طب نمط الحياة؟.. المبدأ الخامس من طب نمط الحياة

ديسمبر 21, 2025 - 00:01
د. أيمن إمام يكتب: الطب المنسى.. لماذا يعتبر الدعم الاجتماعى ركيزة أساسية فى طب نمط الحياة؟.. المبدأ الخامس من طب نمط الحياة

في سلسلة مقالات طب نمط الحياة وتطبيقاته العملية، وبعد أن تناولنا التغذية الذكية، والنشاط البدني، والنوم والاستشفاء الحيوي، ثم إدارة التوتر، نصل اليوم إلى مبدأ قد يبدو للوهلة الأولى “غير طبي”، لكنه في الحقيقة أحد أكثر المبادئ تأثيرًا على صحة الإنسان وطول عمره.

لم يعد يُنظر إلى العلاقات الاجتماعية بوصفها عاملًا نفسيًا فقط، بل تؤكد الأبحاث الحديثة أنها محدد بيولوجي مباشر يؤثر في القلب، والدماغ، والجهاز المناعي، بل وحتى في معدلات الوفاة.

تشير تحليلات علمية واسعة النطاق إلى أن العزلة الاجتماعية وضعف الروابط الإنسانية يرتبطان بزيادة خطر الوفاة المبكرة بنسبة تتراوح بين ٢٥–٣٠%، وهي نسبة تقارب أو تتجاوز تأثير عوامل خطورة تقليدية معروفة مثل السمنة، وقلة النشاط البدني، والتدخين. ولهذا لم تعد العلاقات الاجتماعية تُصنَّف كعنصر داعم للصحة فقط، بل كأحد ركائزها الأساسية.

الإنسان كائن اجتماعي… حقيقة بيولوجية

أدمغتنا مبرمجة منذ آلاف السنين على العيش داخل جماعات. فالتواصل الاجتماعي الآمن يرسل إشارات عصبية وهرمونية تخبر الجسم بأنه في حالة أمان، بينما تؤدي العزلة المزمنة أو العلاقات السامة إلى تفعيل أنظمة التوتر لفترات طويلة.

أظهرت دراسات علم الأعصاب أن التفاعل الاجتماعي الداعم يُنشِّط العصب الحائر ، مما يساعد على تهدئة استجابة «الكر أو الفر»، وتحسين توازن الجهاز العصبي اللاإرادي، وهو أحد المفاتيح المركزية للصحة القلبية والاستقلابية.

وعند الشعور بالدعم والانتماء:

- ينخفض إفراز هرمونات التوتر مثل الكورتيزول

- يتحسن التوازن بين الجهازين العصبيين السمبثاوي والباراسمبثاوي

- يقل الالتهاب الجهازي منخفض الدرجة

وهي جميعها آليات فسيولوجية محورية في الوقاية من الأمراض المزمنة.

العلاقات وصحة القلب والأوعية الدموية

تشير الدراسات الطولية إلى أن الأفراد الذين يتمتعون بروابط اجتماعية قوية يُظهرون:

- انخفاضًا في ضغط الدم

- تحسنًا في انتظام ضربات القلب

- معدلات أقل للإصابة بأمراض الشرايين التاجية

وفي المقابل، ترتبط العزلة الاجتماعية بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والسكتات الدماغية بدرجة تقارب تأثير عوامل الخطر التقليدية مثل ارتفاع ضغط الدم أو اضطراب الدهون غير المُعالَج، مما يجعل الدعم الاجتماعي عاملًا وقائيًا لا يقل أهمية عن التدخلات الطبية المعروفة.

التأثير المناعي والالتهابي

الدعم الاجتماعي لا يقتصر تأثيره على تحسين الحالة النفسية، بل يُعيد ضبط الجهاز المناعي ذاته. فقد أظهرت الأبحاث أن الأفراد الذين يتمتعون بدعم اجتماعي جيد يُظهرون:

- انخفاضًا في إفراز السيتوكينات الالتهابية

- مستويات أقل من مؤشرات الالتهاب المزمن 

- استجابة مناعية أفضل للعدوى

- كفاءة أعلى في التعافي بعد المرض أو الجراحة

ولهذا تُعد العلاقات الصحية عنصرًا فاعلًا في مسار الشفاء، وليست مجرد خلفية نفسية له.

الدماغ، المزاج، وطول العمر

العلاقات الإيجابية تحفّز إفراز هرمون الأوكسيتوسين، المعروف بهرمون الترابط، والذي يلعب دورًا مهمًا في:

تعزيز الإحساس بالأمان

دعم الذاكرة والتعلم

تقليل القلق والاكتئاب

وتشير دراسات علم الشيخوخة إلى أن جودة العلاقات الاجتماعية تُعد من أقوى المتنبئات بطول العمر الصحي. وفي دراسات طولية على كبار السن، وُجد أن الروابط الاجتماعية الداعمة ارتبطت بالحفاظ على القدرات المعرفية وتقليل خطر التدهور المعرفي والخرف، متقدمة في تأثيرها أحيانًا على مستوى التعليم أو الحالة الاقتصادية.

جودة العلاقات أهم من عددها

لا يقيس طب نمط الحياة الصحة الاجتماعية بعدد المعارف أو كثافة التفاعل، بل يركّز على:

الإحساس الحقيقي بالدعم

وجود علاقات آمنة وغير مُنهِكة نفسيًا

القدرة على التعبير والمشاركة دون خوف أو ضغط

فالعلاقات السامة قد تكون أكثر ضررًا على الصحة من العزلة المؤقتة.

العلاقات كجزء من الخطة العلاجية

في طب نمط الحياة، لا تُفصل العلاقات الاجتماعية عن بقية المبادئ، بل تُدمج معها ضمن خطة علاجية شاملة:

تصبح التغذية والنشاط البدني أكثر استدامة داخل بيئة داعمة

يتحسن النوم بوجود شعور بالأمان النفسي

يصبح التوتر أسهل إدارة عندما لا يواجهه الإنسان وحده

ولهذا تُعد إعادة بناء الروابط الإنسانية خطوة علاجية حقيقية، لا تقل أهمية عن تعديل النظام الغذائي أو نمط الحركة.

كيف نُعيد بناء الصحة الاجتماعية؟

لا يقتصر التدخل في هذا المبدأ على الدعوة إلى زيادة عدد العلاقات، بل يشمل العمل الواعي على:

تقليل التعرض للعلاقات المُنهِكة نفسيًا

تعزيز الروابط الآمنة والداعمة

إعادة إحياء العلاقات الأسرية والاجتماعية ذات المعنى

الانخراط في أنشطة جماعية منتظمة وذات هدف

فهذه الممارسات تُعد تدخلات علاجية حقيقية ضمن إطار طب نمط الحياة.

الخلاصة

العلاقات الإنسانية ليست ترفًا اجتماعيًا، بل حاجة فسيولوجية أساسية. فكما يحتاج الجسم إلى غذاء متوازن، ونوم كافٍ، وحركة منتظمة، يحتاج أيضًا إلى الانتماء، والدعم، والتواصل الإنساني الصحي.

ويؤكد العلم الحديث أن غياب الدعم الاجتماعي لا يؤثر فقط على جودة الحياة، بل يترك بصمته على المناعة، والالتهاب المزمن، والتعبير الجيني، وتسارع الشيخوخة البيولوجية.

وفي طب نمط الحياة، لا نبحث فقط عن إطالة العمر، بل عن عمر أطول بصحة أفضل، ومعنى أعمق.