د.أيمن إمام يكتب: مقاومة الإنسولين عند الأطفال والمراهقين.. الخطر الصامت الذي يبدأ مبكرًا

خلال العقدين الأخيرين، شهد العالم ارتفاعًا مقلقًا في معدلات السمنة بين الأطفال والمراهقين، تزامن مع ازدياد حالات مقاومة الإنسولين في أعمارٍ كانت تُعَدّ سابقًا بعيدة عن اضطرابات التمثيل الغذائي. ويرتبط هذا التحول ارتباطًا وثيقًا بنمط الحياة الحديث — قلة النشاط البدني، والاعتماد على الأغذية الغنية بالسكريات والدهون المشبعة، إلى جانب السهر الطويل أمام الشاشات — مما يجعل من مقاومة الإنسولين "الخلل الهرموني الصامت" الذي يمهّد لظهور السكري من النوع الثاني ومتلازمة التمثيل الغذائي في سنٍّ مبكرة.
يُعدّ الإنسولين من الهرمونات المحورية في مرحلة الطفولة، إذ يشارك في تخليق الدهون وتنظيم النشاط الإنزيمي داخل الجسم، وإمداد الخلايا بالطاقة اللازمة للانقسام والنمو، فضلًا عن تنظيم امتصاص الأحماض الأمينية وتخليق البروتينات الضرورية لبناء العضلات. كما يسهم في تنظيم إخراج الصوديوم والسوائل عبر الكلى، مما يبرز دوره الحيوي في الحفاظ على توازن الجسم ونموّه الطبيعي.
*آلية حدوث مقاومة الإنسولين عند الأطفال والمراهقين*
تحدث مقاومة الإنسولين عندما تفقد خلايا الجسم — خصوصًا في العضلات والكبد والأنسجة الدهنية — حساسيتها لهرمون الإنسولين، رغم استمرار إفراز البنكرياس له بمعدلات طبيعية أو مرتفعة.
في هذه الحالة، يضطر البنكرياس إلى زيادة إفراز الإنسولين للحفاظ على مستوى الجلوكوز في الدم، مما يؤدي بمرور الوقت إلى حالة فرط الإنسولين المزمن، ثم إجهاد خلايا "بيتا" المنتِجة لهرمون الإنسولين.
وتنشأ هذه الحالة من تفاعل معقّد بين العوامل الوراثية والبيئية، ويمكن تلخيص أبرز المسببات فيما يلي:
- العامل الوراثي: يلعب دورًا محوريًا، إذ تزيد احتمالية الإصابة لدى الأطفال الذين لديهم تاريخ عائلي لمرض السكري من النوع الثاني أو السمنة. تؤثر بعض الطفرات الجينية على مستقبلات الإنسولين أو على مسارات نقل الإشارة داخل الخلايا، مما يقلل من استجابتها للهرمون حتى في وجود كميات كافية منه.
- تراكم الدهون الحشوية: خاصة في منطقة البطن، حيث تُفرز الخلايا الدهنية مركّبات التهابية (سيتوكينات) تقلل من حساسية الأنسجة للإنسولين.
- قلة النشاط البدني: تقلل من قدرة العضلات على امتصاص الجلوكوز وتضعف استجابتها للإنسولين.
- الأنماط الغذائية غير الصحية: مثل الإفراط في تناول السكريات البسيطة والدهون المشبعة، التي تؤدي إلى تراكم الدهون داخل الكبد والعضلات.
- العوامل الهرمونية في مرحلة المراهقة: حيث يزداد إفراز هرموني النمو والكورتيزول، مما يضعف التأثير الطبيعي للإنسولين في الأنسجة المستهدفة.
تتطور هذه التغيرات بصمتٍ تدريجي دون أعراض واضحة في البداية، لكنها تمثل الخطوة الأولى في متلازمة التمثيل الغذائي، وتمهّد لظهور السكري من النوع الثاني في مراحل لاحقة من العمر.
*كيف يمكن اكتشاف مقاومة الإنسولين مبكرًا عند الأطفال والمراهقين؟*
رغم أن مقاومة الإنسولين تتطور في صمت، فإن علاماتها المبكرة يمكن رصدها من خلال مزيج من الملاحظات الإكلينيكية والفحوص المعملية.
غالبًا ما يُلاحظ الأهل أو الأطباء زيادة غير متناسبة في الوزن، خصوصًا في منطقة البطن، مع تغيّرات جلدية مميزة مثل ظهور مناطق داكنة ومخمليّة الملمس حول الرقبة أو تحت الإبطين تُعرف بـ الشواك الأسود — وهي من أوضح العلامات المبكرة على مقاومة الإنسولين.
وقد تظهر أيضًا مؤشرات أخرى مثل:
- الشعور بالجوع السريع بعد الأكل أو الرغبة المتكررة في تناول السكريات.
- تعب متكرر أو ضعف في التركيز نتيجة تذبذب مستويات الجلوكوز في الدم.
- اضطراب الدورة الشهرية عند الفتيات في سن البلوغ، مما قد يشير إلى بداية خلل هرموني مرتبط بمقاومة الإنسولين.
- من الناحية التشخيصية، يُعتمد على الفحوص المعملية لتأكيد الحالة، مثل:
قياس مستوى الإنسولين الصائم وسكر الدم الصائم، وحساب مؤشر مقاومة الإنسولين لتقدير درجة المقاومة.
في بعض الحالات، يُستخدم اختبار تحمّل الجلوكوز الفموي لتقييم استجابة الجسم للسكر بعد تناوله.
ويُعد الاكتشاف المبكر ذا أهمية بالغة، لأن هذه المرحلة تمثل نافذة ذهبية للتدخل قبل تطور الحالة إلى السكري من النوع الثاني أو متلازمة التمثيل الغذائي. فمع تعديل نمط الحياة من حيث النشاط البدني، والنظام الغذائي المتوازن، وتنظيم النوم، يمكن عكس مقاومة الإنسولين واستعادة التوازن الهرموني الطبيعي.
*المضاعفات المرتبطة بمقاومة الإنسولين عند الأطفال والمراهقين*
إذا لم تُكتشف مقاومة الإنسولين مبكرًا ولم يُتَدخَّل لتصحيحها، فإنها قد تؤدي مع الوقت إلى سلسلة من الاضطرابات الأيضية والهرمونية التي تمهّد لظهور أمراض مزمنة في سنٍ مبكرة.
أهم هذه المضاعفات تشمل:
- السكري من النوع الثاني: وهو أخطر النتائج المحتملة، ويحدث عندما تعجز خلايا البنكرياس عن مجاراة فرط الإنسولين المزمن، فيرتفع سكر الدم تدريجيًا.
- الكبد الدهني غير الكحولي: نتيجة تراكم الدهون داخل خلايا الكبد بسبب خلل تنظيم الإنسولين لعملية تخزين الدهون.
- متلازمة التمثيل الغذائي: وتشمل ارتفاع ضغط الدم، وارتفاع الدهون الثلاثية، وانخفاض الكولسترول الجيد (HDL)، وزيادة محيط الخصر.
- اضطرابات الهرمونات التناسلية: خاصة عند الفتيات، مثل تكيس المبايض واضطراب الدورة الشهرية، وقد تُؤثّر لاحقًا على الخصوبة.
- خلل في وظيفة الأوعية الدموية المبكرة: مما يزيد من خطر تصلب الشرايين وأمراض القلب في مراحل لاحقة من الحياة.
- الآثار النفسية والسلوكية: فالسمنة المزمنة وما يصاحبها من تغيرات شكلية وهرمونية قد تؤدي إلى انخفاض الثقة بالنفس أو اضطرابات المزاج.
تمثل هذه المضاعفات الوجه الصامت والخطير لمقاومة الإنسولين، مما يجعل الوقاية والتشخيص المبكر والتدخل في نمط الحياة أساسًا لحماية صحة الأطفال على المدى البعيد.
*الخاتمة*
إن مقاومة الإنسولين عند الأطفال والمراهقين ليست مجرد ظاهرة عابرة مرتبطة بالسمنة أو العادات الغذائية الخاطئة، بل هي إنذار مبكر لاضطراب أعمق في التوازن الهرموني والتمثيل الغذائي. ويمثل الوعي بهذه المشكلة حجر الأساس في الوقاية، فكل تدخل مبكر — مهما كان بسيطًا — يمكن أن يُحدث فارقًا كبيرًا في المستقبل الصحي للطفل.
إن تبنّي نمط حياة صحي يعتمد على التغذية المتوازنة، والنشاط البدني المنتظم، والنوم الكافي، والحد من الجلوس الطويل أمام الشاشات، لا يحافظ فقط على الوزن، بل يساعد في استعادة حساسية الجسم للإنسولين ومنع تطور المضاعفات الخطيرة.
وسنتناول في مقال الأسبوع القادم بإذن الله كيف يمكن كسر حلقة مقاومة الإنسولين، من خلال خطوات عملية قائمة على الأدلة العلمية، تساعد الكبار والصغار على استعادة التوازن الهرموني وتحسين جودة الحياة.