مصطفى صلاح يكتب: محسن سميكة.. من معدن لا يصدأ

حين أتأمل أسماء الصحفيين الذين مرّوا بنا في هذا الدرب الطويل، الممتد بين الحبر والعناء، لا يبرز في ذاكرتي إلا القليل ممن تركوا أثرًا لا يُمحى. من بين أولئك، يلمع اسم محسن سميكة كوميض سراج في درب مقفر، كصوت من الماضي يقول إن الكلمة ما زالت بخير، وإن الصحافة ــ رغم ما أصابها من داء ــ لم تمت تمامًا، ما دام هناك من لا يزال يكتب بقلبه، ويمضي في الطريق لا كموظف، بل كحامل للرسالة.
ليس محسن من أولئك الذين يصنعهم الحظ، ولا هو ممن تفتّحت أمامهم الأبواب بلا عناء. هو من صنف نادر، أولئك الذين جُبلوا على التعب، وعجنوا المعنى في فرن التجربة، وصقلوا أقلامهم كما تُصقل السيوف في ورش الحرفيين. هو كاتب لا يضجّ بالضجيج، لكن في سطوره موسيقى خفية، وفي صمته حرارة موقف، وفي حضوره صلابة معدن، لا يصدأ، مهما لفحته شمس الأيام.
عرفته عن قرب، لا من سطور يُكتب فيها المدح، بل من مواقف تُختبر فيها النفوس. كان معنا في "المصري اليوم"، يوم كانت الصحافة مشاعل لا تُطفأ، وكان على رأس التجربة الكاتب الكبير مجدي الجلاد، الذي صاغ من الصحيفة مدرسة ومحرابًا. كنا نجلس على المكاتب المزدحمة، في الليل الطويل، نُحرر، نُراجع، نحذف ونضيف، وفي الركن القريب كان محسن، لا يلهث خلف انفراد زائف، بل يبحث عن الحقيقة كما يُنقّب الفلاح عن الماء في جوف الأرض.
كانت بيننا زمالة المهنة، نعم، لكنها كانت أيضًا زمالة الروح. في محسن شهامة قلّ نظيرها، تلك الشهامة التي تظهر في التفاصيل، في رد التحية، في الإيثار الصامت، في أن يكون حاضرًا حين يغيب الجميع. وما أسهل الادّعاء، وما أصعب أن تكون على سجيتك في عالم يتقن التمثيل، لكن محسن ظل كما هو: رجلًا مستقيمًا في وقتٍ مال فيه الكثيرون.
وإن كان من شيء يُقال في حق هذا الرجل، فهو أنه لم ينحنِ يومًا لعاصفة، ولم يُساوم على حرف. اختار من الصحافة دربها الأصعب: أن يكون حرًّا في زمن التقييد، وأن يكتب كما يشعر لا كما يُملى عليه. لم يبدّل جلده، ولم يتزيَّ بغير ما يؤمن، فظل في كل مقام رجلًا يُشار إليه بالبنان: هذا محسن سميكة، الصحفي الذي لم يخذل القلم، ولا خذله.
ولعل من أبرز إنجازاته وأكثرها صدى، هو موقع "الموقع"، الذي لم يأتِ صدفة ولا كان نسخةً باهتة من غيره، بل تأسس على بصيرته، ورؤيته، وإيمانه بأن الصحافة ما زالت تحتاج إلى من يُعيد لها جلالها. خطّ خطواته بهدوء، لا ضجيج ولا تهويل، ثم مضى يصعد، درجة بعد أخرى، حتى أصبح اليوم من بين المواقع الإخبارية الرئيسية في مصر، له صوته الخاص، وله جمهوره، وله مكانته بين وسائل الإعلام الكبرى. ومن يتابع "الموقع" يلمس الحرفية والجدية، والحرص على ألا تهتزّ الكلمة أمام الريح.
و"الموقع"، كما تابعته، يحمل بصمته، ليس فقط في شكله، بل في روحه. فيه توازن لا تميله العواصف، وفيه نبض لا يُشبه الصراخ. لا يُغريه السبق المجاني، ولا يسقط في مستنقع الابتذال، لأن قلمه هو بوصلته، وضميره هو المعيار.
إن من يتابع محسن سميكة اليوم لا يرى فقط صحفيًا ناجحًا، بل يرى نموذجًا نادرًا لصناعة الذات. لم يرث تركة، ولم يُهدَ إليه اسم، بل صنع كل لبنة بيده. وهذا هو الجوهر. فالنجاح الحقيقي ليس في عدد الزوار، ولا في تريند عابر، بل في بناء مؤسسة قوامها المصداقية، وجدارها الثقة، وسقفها الأخلاق.
ولعل أجمل ما في محسن أنه لم يتغيّر. رغم كل ما حققه، لا تزال ملامحه تحمل ذات الصفاء، وحديثه يحمل ذات التواضع. يُصغي إليك وكأنك الأهم، ويُجيبك دون استعلاء. وحين تشتد الأمور، يكون أول من يبادر، لا بالكلام، بل بالفعل. له في كل موقف بصمة، وفي كل أزمة يد ممدودة، لا تُعلن عن نفسها، بل تفعل وتنسحب في هدوء.
في زمن طغت فيه الزيف على الحقيقة، والضجيج على المعنى، يظل محسن سميكة واحدًا من الذين يُراهن عليهم. كلماته لا تُباع، ومواقفه لا تُشترى، وهوامشه أكثر صدقًا من عناوين غيره. يحمل بداخله ما يُشبه النور القديم، نور الحارة المصرية، والدفء الإنساني، والصدق الذي لا يتلوّن.
لذلك، فإنني لا أكتب عنه الآن مجاملة، ولا أُثني عليه كما تُثنى الصداقات المصلحية، بل أكتب لأن الرجل يستحق أن يُقال فيه ما يُقال في الكبار. وإن نسيت الصحافة بعض أبنائها في زحمة التوافه، فستتذكّر يومًا أن هذا الاسم مرّ من هنا، وترك أثرًا، وكتب حرفًا من ذهب، دون أن يطلب التصفيق.
محسن سميكة... يا من كتبت بالعرق قبل الحبر، ووقفت بوجه العاصفة دون خوذة، سلام عليك في زمنٍ قلّ فيه السلام، ووفاء لك، ما دام في القلب عرفان.