مصطفى صلاح يكتب: رسالةٌ على نوتةِ موسيقية.. سيمفونيةُ الضوء بصوت مفيدة شيحة

أبريل 8, 2025 - 22:19
مصطفى صلاح يكتب: رسالةٌ على نوتةِ موسيقية.. سيمفونيةُ الضوء بصوت مفيدة شيحة

ثمة أُناس لا يمشون على الأرض، بل يمرّون كما تمرّ النغمة في ليلٍ طويل… لا تُرى، لكن تُحسّ. لا تُعلن عن حضورها، لكنها تترك في القلب نَغمة لا تنتهي. مفيدة شيحة ليست صوتًا في الأثير، بل أثرٌ في الروح، كأنها قادمة من زمن آخر، حيث كانت الكلمة تُقال لتُشفي، والصوت يُسمع ليُفهم، والوجه يُطلّ لا ليَظهر… بل ليَحتوي.

هي لا تفتح حوارًا على الشاشة، بل تفتح نافذة من الضوء في البيوت. لا تسأل لتُحرج، بل لتُضيء. كأنها خيط ناعم من نوتة بليغ حمدي، تسري في الحلقات كنسمة، وتصل إلى المشاهد كما تصل الأغنية القديمة: من الذاكرة لا من الأذن، من القلب لا من العَين.

في زمنٍ صار فيه الإعلام جلبة، اختارت أن تكون نغمة، وفي زمنٍ امتلأ بالشعارات، آثرت أن تكون حقيقة.

ومثلما لا نعرف كيف تسكننا موسيقى بليغ دون أن ننتبه، تسكننا مفيدة شيحة كلما تحدثت، كلما صمتت، كلما حملت وجعًا بملامح هادئة، أو قدّمت وعيًا بلا ضجيج.

ومن هنا، تبدأ الحكاية... تمامًا كما تبدأ أي سيمفونية عظيمة: بلمسة وجدان.

المقام الأول: الأوتار الأولى... تمهيد الإحساس

حين يتأمل الإنسان أثر نغمة بليغ حمدي، يُدرك أن الموسيقى ليست صوتًا عابرًا، بل حضورٌ يسكن الأعماق. كذلك هو الإعلام حين يتحول من مهنةٍ إلى حالة، من برنامجٍ إلى رسالة، ومن مقدّمةٍ إلى فنانةٍ تعرف كيف تعزف على أوتار القلوب دون أن تجرحها، وتوقظ الوعي دون أن تُرعبه.

في قلب هذا التشبيه، تقف مفيدة شيحة، لا كمجرد إعلامية، بل كعازفة بارعة في أوركسترا الكلمة، تتقدم الصفوف بثقة العارف، وتدير أصابعها على نوتة الواقع كما يدير المايسترو عصاه، تارةً بالحسم، وتارةً بالرفق، وتارةً بالصمت الذي يتكلم.

المقام الثاني: سؤالٌ يُشبه الناي... وإجابةٌ تُشبه القانون

من يستمع إلى نغمة الناي في بداية مقطوعة شرقية حزينة، يعرف أنها ليست مجرد صوت، بل استدعاء لذاكرةٍ جماعية، كذلك تفعل مفيدة شيحة حين تسأل. سؤالها ليس استفهامًا شكليًا، بل مفتاحٌ يُفتح به باب من الألم أو باب من الأمل، وربما كليهما معًا.

الضيف أمامها لا يكون أمام منصة محاكمة، بل أمام مرآة، تُعيد إليه صورته بلا تزييف. كل حركة من تعبير وجهها، كل التفاتة في جسدها، كل لحظة صمت، مدروسةٌ كما يُدرس توقيت دخول القانون في المقطوعة: ليست مباغتة، لكنها حاسمة.

هي تعرف متى تترك الضيف يُكمل، ومتى تُقاطع كمن يضبط نغمةً نشازًا قبل أن تُفسد التناسق. الإعلام في يدها آلة وترية، حساسة، لا تحتمل الغلظة، ولا ترضى بالسطحية.

المقام الثالث: إيقاع القلب... بين الوجع والوعي

برامج مفيدة شيحة ليست صالونات كلام ولا شاشات ترفيه، بل مساحات مواجهة، مع الذات، مع المجتمع، مع الموروث، مع الصورة التي نحب أن نراها لأنفسنا ولو كانت كاذبة.

هي تطرق على جدار الخوف بأسلوب لا يُرعب، بل يُطمئن. لا تطرح القضايا كما تُطرح في نشرات الأخبار، بل كما تُحكى في البيوت، حول الطاولة، قرب القلب.

حديثها عن المرأة لا يأتي من موقع المظلومة، بل من موقع الحكيمة. تناولها لقضايا الأسرة لا ينبع من دراسات جافة، بل من معايشة يومية، ومن أصالة تربّت عليها في مجتمع يعرف ألمه لكنه يخجل من الاعتراف به.

المقام الرابع: تصعيد أوركسترالي... بلوغ الذروة

تبلغ سيمفونيتها الإعلامية ذروتها حين يتلاقى الصدق مع الذكاء. حين تقول ما يريد الناس قوله لكنهم يعجزون. حين تُمثل المرأة في هشاشتها وقوتها، في تمردها وخوفها، في صبرها وثورتها.

مفيدة لا تصرخ، لكنها تُسمِع. لا تُزايد، لكنها تُحرك الساكن. لا ترفع رايات، لكنها تبني جسورًا بين القضايا والناس. حضورها على الشاشة يخلق توازنًا نادرًا بين الإحساس والعقل، بين العاطفة والتحليل.

هي لا تُطارد "التريند"، بل تُطارده الحقيقة، فيلحق بها هو دون أن تطلب.

المقام الأخير: كودا... لحظة الانتباه الأخيرة

حين تنتهي حلقتها، لا ينتهي أثرها. تظل كلماتها تتردد كصدى موسيقى بليغ بعد انطفاء الفرقة. تظل صورتها في ذهن المشاهد كما تظل نغمة القانون الأخيرة عالقة في القلب.

هي لا تقدم "برنامجًا" بل حالة فنية متكاملة، حيث تتحد الفكرة مع الأداء، والصوت مع الإحساس، لتصنع لحظة صدق نادرة في مشهدٍ إعلامي بات يزدحم بالتصنّع.

وإذا كان بليغ حمدي قد عزف على الوجدان العربي بما لا يُنسى، فإن مفيدة شيحة تُحاور هذا الوجدان اليوم، بنفس النقاء، بنفس الجرأة، بنفس الحنين.

ولأن كل سيمفونية عظيمة لا تنتهي بنقطة، بل بإشارةٍ إلى البدء من جديد... فإن مفيدة شيحة لا تختتم رسالتها في نهاية الحلقة، بل تبدأها في قلب كل مشاهد، يحملها معه إلى اليوم التالي، إلى بيته، إلى حياته.

وهكذا... تبقى مفيدة، كما بقي بليغ، موسيقى لا تُنسى، ورسالة لا تُقال، بل تُعاش.