مصطفى صلاح يكتب: إلهام شاهين.. عقلٌ لا يكتفي بالتمثيل.. و روحٌ لا تكتفي بالمشاهدة

May 24, 2025 - 00:30
مصطفى صلاح يكتب: إلهام شاهين.. عقلٌ لا يكتفي بالتمثيل.. و روحٌ لا تكتفي بالمشاهدة

ليست الثقافة زينة تُضاف إلى الرؤوس كما تُضاف الزهور إلى الطاولات، ولا هي طلاءٌ خارجي نُظهره حين تدعو الحاجة. الثقافة، كما نراها في بعض النماذج الإنسانية، هي جوهرٌ فاعل، وملكةٌ حية، وموقفٌ من الوجود ذاته، يتجلى في القول كما يتجلى في الفعل، وفي الصمت كما يتجلى في التعبير. ومن هذه النماذج، شخصيةٌ فنية قد يظنها البعض منشغلة بزينة الفن، وهي في حقيقتها متلبسةٌ بجوهر الفكر: إلهام شاهين.

لم أعرف في الجيل المعاصر من فناناتنا من جعلت للثقافة في حياتها هذا النصيب المكين، ولا من ربطت بين القراءة والتمثيل كما ربطت هي بين الفكر والدور، وكأنها تُخرج الكلمة من النص كما يُخرج الرسام خطَّه من اللوحة. لقد كانت القراءة عندها لا تسلية وقت، بل غذاء روح، ورياضة عقل، وتجربة وجودية، لا تختلف في جوهرها عن تجربة الفن نفسه.

فالكتاب، عند إلهام شاهين، ليس أداة للزينة في حقائب السفر أو على رفوف الصالونات، بل هو كائن حيّ، تُقيم معه علاقة تفاعلية، تنقده إن وجب، وتؤوّله إن اقتضى، وتُعجب به دون أن تُسلم له القياد، وتخالفه دون أن تهدم بناءه. ولعمري، تلك هي القراءة الحقيقية التي تُثمر وعياً، لا مجرد تراكم معلومات.

وقد يُقال: وما الجديد في أن تقرأ فنانة؟ فأقول: الجديد هو أن تقرأ بعقل المتأمل لا بعين المستهلك، وأن تُقبل على الفكر إقبال الطالب على معلمه، لا إقبال المتفرج على مشهدٍ عابر. كثيرون يقرؤون، ولكن قليلين يُبدعون في تحويل القراءة إلى رؤية، والرؤية إلى موقف، والموقف إلى فعل. وإلهام شاهين من هؤلاء القلائل الذين لم يكتفوا بالتمثيل، بل تمثلوا الثقافة في السلوك، وفي المواقف، وفي الحوار.

ولا أظن أن مثل هذه الشخصية تكونت صدفة، ولا كانت وليدة رغبة طارئة، بل هي ثمرة نضجٍ طويل، واحتكاك مستمر مع نصوص عتيقة وحديثة، ومع تيارات فكرية شتى. فقد قرأت من الفلسفة بقدر ما قرأت من الرواية، وتتبعت الفكر السياسي كما تتبعت أدب الاعتراف، وخاضت في جدليات الدين والوجود والفن، لا لتنتصر لرأي، بل لتتسع الرؤية.

واللافت هنا أن هذه الثقافة لم تأتِ على حساب الحسّ الفني أو العاطفة الجمالية، بل كانت مُعززة لهما، فالفكر لم يقتل في داخلها الشغف، بل نظّمه، والعقل لم يُطفئ نار الإحساس، بل وجّهها. كأنها تحقّق بتلقائية ذكية معادلة كان يظنها البعض مستحيلة: أن تجمع بين الحرية والانضباط، بين المعرفة والعفوية، بين التحليل والإلهام.

لقد جُبلت هذه الشخصية على ألا تكتفي بما يُعرض لها، بل تسعى إلى ما وراء المعروض، تقرأ النصوص وما بينها، وتسمع الأصوات وما خلفها، وتدرك من الرموز ما لا يراه من لم يتدرب على التفكيك والتأمل. وهي بذلك، ليست فقط فنانةً تمثّل الأدوار، بل عقلٌ يفسّر الحياة، ووجدانٌ يتفاعل معها.

ولست أُثني على شخص لأجل شخصه، ولكن أُسجل حقيقة ثقافية قلّ نظيرها: أن فنانة في عصر تتنازع فيه السطحية كل منبر، وتُهمّش فيه الجدية من أكثر الزوايا، تُصرّ على أن يكون لها موقف، وأن يُصبح الكتاب لها كما السلاح للمقاتل، لا تخرج بدونه إلى معترك الحياة.

وليس عجيباً، بعد ذلك، أن تنحاز هذه الشخصية إلى قضايا الفكر، وإلى هموم الوطن، وإلى الإنسان، وأن تطرح رؤاها في لقاء أو ندوة أو موقف بجرأة العارف، لا بادعاء المتكلف. فهي تعرف ما تقول، لأنها قرأت ما تقول، وفكرت فيما قرأت، ثم عاشت ما فكرت فيه.

تلك هي الثقافة الحية، لا تلك التي تُحفظ في المجلات أو تُعلّق في السِّيَر الذاتية. وهي ما يجعل من إلهام شاهين، في تقديري، لا مجرد فنانة، بل شخصية ثقافية تتقدم بوعي، وتتجدد بفضول، وتتحرك بدافع لا ينضب من حبّ الفهم، لا حبّ الظهور.

وختام القول: إن ما نراه من نضجٍ في الأداء، وصدقٍ في التمثيل، ووضوحٍ في الموقف، ليس إلا ثمرةً من ثمار شجرةٍ عميقة الجذور، أوراقها الفكر، وجذعها التجربة، وثمرتها: امرأة تقرأ لتفهم، وتفهم لتُحسّ، وتُحسّ لتُبدع.