حكايتي مع السفر من بلاد بلا ربيع إلى بلاد تغمرها الثلوج والأمطار

أبريل 7, 2025 - 22:19
حكايتي مع السفر من بلاد بلا ربيع إلى بلاد تغمرها الثلوج والأمطار

بقلم : د. عصام عبدلله 

خبير التنمية و التطوير بالفنادق وخبير سلامة الكابينة بخطوط الطيران 

بداية أحب إن اؤكد إن السفر بمثابة متعة.. تعلم.. تجارب حياتية.. تكيف أيضا مع ظروف السفر من أجل الاستمتاع بكل لحظاتة فتعلمت أن التكيف مع الطقس هو مهارة أساسية للسفر، سواء كنت في صحراء حارقة، أو وسط عاصفة ثلجية، أو تحت أمطار استوائية مستمرة بحكم عملي في الطيران، كانت لي الفرصة لزيارة العديد من الدول التي تختلف تضاريسها ومناخها، مما منحني تجربة فريدة لرؤية كيف تعيش الشعوب في بيئات مختلفة تمامًا عن بعضها. من بلاد لا ترى فصل الربيع أبدًا إلى بلاد تشهد جميع الفصول، حيث تغمرها الثلوج والأمطار طوال العام كانت كل محطة تحمل معها مغامرة جديدة وتحديات لا تُنسى.

هناك العديد من الدول التي لا تمر بها المواسم الأربعة التقليدية، بل تعيش في مناخ مستقر نسبيًا طوال العام، وغالبًا ما تكون إما حارة جدًا أو باردة جدًا. زرت بعض الدول التي لا ترى الربيع أبدًا، وكان لكل منها طابعها الخاص على سبيل المثال لا الحصر السعودية والامارات العربية حيث يسود الطقس الحار والجاف بهذه الدول ولا تشهد ربيعًا حقيقيًا، حيث ينتقل الجو فجأة من الشتاء القصير والمعتدل إلى الصيف الطويل والحار.

ان التحدي الأكبر في الحرارة الشديدة التي قد تصل إلى 50°C في بعض الأحيان، مما يجعل التنقل في الخارج صعبًا جدًا.

وهناك ايضا البلدان الاستوائية ذات الفصول المتقلبة مثل اندونيسيا وماليزيا وسنغافورة حيث الطقس حار ورطب طوال العام، مع أمطار موسمية مفاجئة ولا يوجد ربيع أو خريف، بل فقط فصلان وهما

 ١- موسم الأمطار حيث تغمر السيول الشوارع وتزداد الرطوبة بشكل كبير 

٢- وموسم الجفاف ولكنه يبقي حارًا ورطبًا معظم الوقت.

ومن أجمل الذكريات كانت في تايلاند بين الرطوبة القاسية والانتعاش بالفواكه المثلجة ودائمًا ما أجد نفسي عالقًا بين نقيضين متعبين ولكن ممتعين في الوقت نفسه، الرطوبة الخانقة في الشوارع، والتكييف البارد المتجمد في الأماكن المغلقة ناهيك عن إرهاق التسوق وسط الرطوبة الشديدة، فكل مرة كنت أستعد فيها للخروج صباحًا، وما إن أخطو خارج الفندق حتى أشعر بكتلة من الهواء الساخن الرطب تلتف حولي، وكأنني دخلت إلى غرفة ساونا مفتوحة في الهواء الطلق. كما ان المشي في الأسواق والشوارع المزدحمة في بانكوك كان مهمة شاقة، حيث يتصبب العرق بعد خطوات قليلة، ويصبح التنفس ثقيلًا بسبب الرطوبة العالية التي تجعل الملابس تلتصق بالجسم فورًا ورغم ذلك، كان التسوق مغريًا جدًا، خصوصًا مع الأسواق الليلية، والأكشاك المليئة بالمأكولات الغريبة، والمنتجات الفريدة.

نأتي الي صدمة التكييف المتجمد، من الجحيم إلى التجميد، فبعد ساعات من المشي تحت الشمس الحارقة، كنا نبحث عن أي مكان مكيف فندخل متجر أو مركز تسوق فقط لنلتقط أنفاسنا. ولكن المفاجأة دائمًا ما يكون التكييف قوي لدرجة التجمد كأننا انتقلنا من درجة حرارة 38°C مع 90% رطوبة إلى 16°C وكأننا في ثلاجة! كنا نرتجف بمجرد دخول أي محل أو مطعم، ونضطر أحيانًا لارتداء جاكيت خفيف داخل الأماكن المغلقة، رغم الحرارة الخارجية التي تكاد تذيبنا.

في وسط هذا التناقض، لم يكن هناك أفضل من الوقوف عند بائع الفواكه المثلجة في الشارع، كنا نأخذ قطع المانجو، الأناناس، أو البطيخ المبردة، ونأكلها بينما نمشي لنخفف من تأثير الحرارة والرطوبة، هذه اللحظات البسيطة كانت منقذة لنا من الجفاف والتعب، وكانت تجعل الجو الحار والرطب أكثر احتمالًا والأجمل من ذلك، أن الفواكه كانت طازجة ولذيذة جدًا، وكأنها مكافأة طبيعية لمغامرتنا في الطقس المتقلب.

ان الوصول الي أحد الشواطئ كان يعتبر الملاذ الأفضل بعد يوم طويل من التسوق والتنقل وسط الحر الشديد، كانت أفضل لحظات الرحلة، فبمجرد الجلوس أمام البحر والاستمتاع بنسيم الماء المنعش كان كافيًا ليجعلنا ننسى الإرهاق وكذلك المياه الدافئة والمناظر الساحرة كانت المكان المثالي لقتل تأثير الرطوبة الشديدة كما ان منظر الغروب فوق البحر كان يمنح إحساسًا لا يوصف، وكأنه مكافأة نهاية يوم شاق مليء بالمغامرات.

على قدر التعب والارهاق في السفر الي هذه البلدان فإني اعتبره تعب ممتع وتجربة لا تُنسي ورغم إرهاق الجو والرطوبة العالية، إلا أن كل لحظة في تايلاند كانت مليئة بالحياة والمغامرات ما بين التسوق المتعب، التكييف القاسي، الفواكه المثلجة، والشواطئ الساحرة، كانت هذه التجربة واحدة من أجمل الذكريات التي عشتها في السفر الي بلدة لا تشهد الربيع.

على الجانب الآخر، زرت دولًا باردة تعيش جميع الفصول، ولكن يغطيها الثلج والأمطار معظم السنة، على سبيل المثال 

الدول الاسكندنافية (السويد، النرويج، فنلندا) وذكرياتي مع الثلوج والعاصفة الثلجية في أمريكا الشمالية عام ١٩٩٦ عندما أصبحنا عالقين في مدينة غاندر (Gander) -Newfoundland. Canadaبين الثلوج والعاصفة في لحظات لا تُنسى في الشمال المتجمد. 

كانت رحلتنا متجهة إلى مطار جون إيف كينيدي(JFK) في نيويورك عندما ضربت عاصفة ثلجية عنيفة الشمال الشرقي للولايات المتحدة، مما جعل الهبوط في نيويورك مستحيلًا تمامًا. وبينما كانت المطارات تغلق واحدًا تلو الآخر، لم يكن أمامنا خيار سوى تغيير وجهتنا إلى مطار غاندر في نيوفاوندلاند، كندا، الذي كان المطار الوحيد الذي سمح لنا بالهبوط وسط هذه الظروف القاسية.

لقد كان هبوط اضطراري وسط الجليد وبمجرد أن هبطت الطائرة، أدركنا أننا وصلنا إلى مدينة شبه معزولة تمامًا، حيث لم يكن هناك سوى عدد قليل من السكان والبنية التحتية البسيطة. وبعد دقائق فقط من هبوطنا، أُغلق مدرج المطار تمامًا بسبب تراكم الثلوج والعاصفة المستمرة، مما جعلنا عالقين هناك لفترة غير محددة. الطريف في الأمر، أنه لم يكن هناك سوى فندق واحد في المدينة، لكنه كان مغلقًا طوال فصل الشتاء بسبب قلة النشاط السياحي في هذا الموسم القاسي! ومع ذلك، وبعد التفاوض السريع، تم الاتفاق على فتح الفندق بشكل استثنائي لاستقبال ركاب طائرتنا وطائرة أخرى كانت قد هبطت قبلنا بفترة قصيرة.

لم يكن هناك عدد كافٍ من الموظفين لتشغيل الفندق بالكامل، مما جعلنا نتكاتف جميعًا لجعل المكان صالحًا للإقامة. 

مع وجود 480 راكبًا عالقًا في هذه المدينة الصغيرة، كان من الضروري تنظيم الإجراءات بسرعة. لم يكن هناك عدد كافٍ من مسؤولي الهجرة، لذلك قام طاقم الطائرة بنفسه بتنظيم حركة الجوازات والتأشيرات للركاب القادمين وكانت لحظة غير مسبوقة، حيث انتقلنا من كوننا طاقم طيران إلى فريق منظم لإدارة الأزمة، وهو ما زاد من روح التعاون بيننا وبين الركاب.

ونظرًا لقلة الموظفين داخل الفندق، بدأنا جميعًا في المساعدة في ترتيب الغرف وتجهيزها للنزلاء وكذلك تنظيم توزيع الطعام والمياه للركاب مع التنسيق مع السكان المحليين الذين جاؤوا لمساعدتنا بكرم وطيبة قلب رائعة. 

النقطة الاهم كانت في قيامنا بأنفسنا بتنظيف الطائرة بالكامل استعدادًا للرحلة القادمة، حيث لم يكن هناك فريق متخصص التنظيف في المطار في ذلك اليوم.

 كانت جميع التحركات من وإلى المطار تتم عبر عربات مجهزة بزلاجات خاصة، لأن الثلوج كانت تغطي الطرق بالكامل وقد كانت تجربة رائعة وغريبة في آنٍ واحد، حيث لم أتنقل بهذه الطريقة من قبل، وكأننا في مشهد من فيلم عن القطب الشمالي.

ومع تحسن الطقس في اليوم التالي، أصبحنا جاهزين للإقلاع من جديد ورغم الإرهاق الشديد، كانت هذه التجربة واحدة من أكثر اللحظات التي أظهرت معنى العمل الجماعي الحقيقي ولم يكن الأمر مجرد توقف اضطراري، بل درس عملي في التعاون والتكيف مع الظروف الصعبة، وروح المساعدة بين الجميع.

لحظات لا تُنسى وسط الثلوج، فلم تكن غاندر مجرد محطة توقف، بل كانت تجربة فريدة علمتني الكثير عن قوة التعاون وروح الفريق. فها هم موظفي الطيران الذين تحولوا إلى منظمي جوازات وعمال تنظيف، ومن ثم التعاون مع السكان المحليين الذين فتحوا قلوبهم قبل منازلهم لمساعدتنا، كانت هذه واحدة من أجمل لحظات التكاتف التي عشتها في رحلاتي.

هنا، وجدت نفسي في عالم مختلف تمامًا عن البلدان الحارة التي زرتها من قبل، فالشتاء يمتد لأشهر طويلة، والشمس تغيب لساعات كثيرة في بعض المناطق الشمالية، حتى في الصيف، تبقى الأجواء باردة وممطرة، وأحيانًا تتساقط الثلوج حتى في يونيو!

فبعد تجربة السفر بين هذه البلدان، أدركت أن المناخ يؤثر بشكل كبير على أسلوب حياة الناس وطريقة تفكيرهم ففي البلاد الحارة، الناس أكثر اعتيادًا على العيش في أماكن مكيفة ويتجنبون الشمس قدر الإمكان على ان تتم النشاطات في الليل أو في أماكن مغلقة، اما في البلاد الباردة، فهناك ثقافة الاستمتاع بالشتاء، حيث يتزلج الناس، ويشربون المشروبات الساخنة، ويتكيفون مع الطقس القاسي علي الرغم من الظلام والبرد، فإن لديهم أنشطة ممتعة مثل الشفق القطبي ورحلات التزلج. 

اما في البلاد الاستوائية فإن الأمطار جزء من الحياة اليومية، ويعرف الجميع كيف يتأقلم مع الطقس الرطب والطبيعة الخضراء والشواطئ الجميلة التي تجعل الجو الحار أكثر قبولًا.

ان السفر يفتح العيون على عجائب الطبيعة والمناخ وكل بلد له طابعه الخاص، وسحره الذي يجعله مكانًا يستحق الزيارة، بغض النظر عن ظروفه الجوية. لقد جعلني السفر أقدر تنوع الطبيعة وأدرك أن لكل بيئة جمالها الفريد، رغم التحديات التي تأتي معها!

وأخيرا اؤكد ان متعة السفر ليست فقط في الوجهة، بل في الرحلة نفسها، وفي القصص والتجارب التي نحملها معنا إلى الأبد.