السفير الدكتور عادل عيد يوسف يكتب: هل بدأ العد التنازلي لانهيار الرأسمالية؟

في لحظة تتلبد فيها سماء الاقتصاد العالمي بالغيوم الثقيلة، وتتصاعد فيها الأبخرة السامة للتوترات التجارية، يُطرح سؤال ملحّ ومفصلي: هل نشهد بداية انهيار الرأسمالية ذاتها؟ تلك المنظومة التي حكمت العالم منذ قرون، والتي وعدت بالرخاء مقابل الحرية الاقتصادية، يبدو أنها اليوم تترنّح تحت وطأة التناقضات التي أنجبتها، وتحديدًا تحت سيف الحرب التجارية التي يقودها دونالد ترامب من قلب النظام الرأسمالي نفسه.
فحين تفرض الولايات المتحدة ضرائب جمركية قاسية على الشركاء التجاريين – الصين، الاتحاد الأوروبي، كندا، والمكسيك – بنسبة تصل إلى 34%، وتبرر ذلك بأنه “إحياء للصناعة الوطنية”، فإننا لا نكون أمام إجراء اقتصادي عابر، بل أمام إعلان صريح بانكماش المنظومة نحو داخلها، في انكفاء يشبه الهروب من مبادئها الأساسية: التبادل الحر، والعولمة، وتوزيع الثروة عبر الأسواق المفتوحة.
الرأسمالية، التي لطالما تغذت على توسيع الأسواق، وتدفق السلع بلا قيود، تتعرض اليوم إلى ضربة من الداخل. فالدولة التي نَصَّبت نفسها راعية لهذا النظام، ها هي تشكك فيه وتضع العوائق أمام حركته، وكأنها فقدت الثقة في القواعد التي أرستها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بل منذ تأسيس نظام بريتون وودز وصندوق النقد الدولي. في هذا السياق، فإن الرسوم الجمركية الترامبية ليست مجرد سياسة دفاعية، بل هي مظهر من مظاهر التفكك الداخلي في بنية الرأسمالية.
ولعل المفارقة العظمى تكمن في أن من سيدفع الثمن أولاً هم اللاعبون الاقتصاديون داخل تلك المنظومة: الشركات العالمية، المستهلكون، والمستثمرون. ارتفاع الأسعار نتيجة الرسوم سيقلّص القدرة الشرائية، ويضغط على هوامش الربح، ويزيد من التوترات الاجتماعية. قطاع السيارات سيتلقى الضربة القاسية، يليه قطاع التكنولوجيا الذي يعتمد على سلاسل توريد تمتد من الصين إلى ألمانيا فالمكسيك. حتى الزراعة الأمريكية، التي كانت لفترة طويلة أحد أعمدة النفوذ الأمريكي الخارجي، أصبحت الآن رهينة انتقام تجاري تقوده الصين بأسلوب دقيق وواعٍ.
وفي الخلفية، يظهر شبح الكساد العظيم، لا كدرس تم تجاوزه، بل ككابوس يعاود الظهور. في ثلاثينيات القرن الماضي، أدت الحرب التجارية الناتجة عن قانون سموت-هولي إلى انهيار التجارة العالمية بنسبة 70%، وهو ما عجّل بانفجار اقتصادي عالمي، كانت تبعاته السياسية والعسكرية كارثية. واليوم، تتكرر المشاهد: غلق الأسواق، صعود القومية الاقتصادية، تآكل الثقة بين الحلفاء، وتنامي محور تجاري بديل تقوده دول “البريكس” ومجموعة “آسيان”، في مسعى لتجاوز هيمنة الدولار ونظام التجارة الذي تُهيمن عليه واشنطن.
ما يثير القلق ليس فقط حجم الضرر المباشر، بل ما يوحي به من رمزية عميقة: أن النظام الرأسمالي العالمي لم يعُد قادرًا على التكيف مع أزماته، وأن آليات السوق لم تَعُد تكفي لإدارة التناقضات، بل تحوّلت إلى أدوات للهروب والانغلاق والحصار. هذا بالضبط ما يجعل الحديث عن “انهيار ناعم” للرأسمالية أمرًا جديًا وليس خيالًا فكريًا. إنها تفقد قدرتها على الإقناع، كما تفقد بريقها في عيون الشعوب التي تتألم من تفاوتات طبقية متفاقمة، ومن أنظمة ضريبية تخدم الأغنياء، ومن شركات كبرى تحوّلت إلى كيانات بلا مسؤولية اجتماعية.
المشهد الآن أكثر قتامة مما يبدو في عناوين الصحف. الرأسمالية التي خلقتها أمريكا، بدأت أمريكا نفسها في نزع شرعيتها، لا بحرب أيديولوجية، بل بسياسات “اقتصادية وقائية” تتناقض مع جوهرها. وإذا استمرت هذه السياسات، فإننا قد نشهد في العقد القادم ليس فقط تحولًا في مراكز القوة الاقتصادية، بل تحللًا في شكل النظام ذاته، وولادة شيء جديد من رماد الرأسمالية: ربما نظام أكثر قومية، أكثر تكتلاً، وأقل حرية.
إنها ليست مجرد حرب جمركية، بل لحظة تاريخية فاصلة تُعيد طرح السؤال الذي حاول العالم تجاهله لعقود: هل الرأسمالية نظام أبدي؟ أم مجرد مرحلة تاريخية بدأت تكتب نهايتها بصمت، على جدران الموانئ المغلقة والأسواق المنكمشة؟