مصطفى صلاح يكتب: ليلى علوي.. زهرة بين أشواك الحياة تنمو بلا خوف

تطلّ ليلى علوي على الشاشة كما تطلُّ زهرة صافية من قلب الحقول المتعبة، تشقُّ طريقها بين أشواك الحياة بإشراقة وجه يشعّ ضياءً يتجاوز حدود الزمن. لا تقف عند ملامحها الجميلة، ولا عند نبرة صوتها الدافئة، بل تنبع من عينيها أسرارٌ لا تُقال، وتفيض من حضورها حكايات لا تُروى إلا بنبض القلب. ليلى ليست فقط ممثلة، بل كيان إنساني نابض يجعل من الفن معراجًا نرتقي به إلى أعمق أعماقنا.
في كل دور تؤديه، تتجلّى كقصيدة حيّة، تمزج بين صدق الأداء وصفاء الإحساس، حتى تُشعرنا أننا لا نراها، بل نرى أنفسنا من خلالها. تقف أمام الكاميرا كما تقف الأرواح أمام مرآة الحقيقة: بلا أقنعة، بلا زيف. تُنصت لنبض الشخصية، تنصهر فيها حتى يصعب علينا الفصل بين الممثل والدور. كأنها ولدت من رحم المشاعر نفسها، لا تمثّلها، بل تعيشها، وتمنحها من وهج روحها ما يجعلها خالدة.
ما بين حنانٍ متدفّق وقوةٍ كامنة، تملك ليلى علوي موهبة فريدة تُترجم أحاسيس الإنسان المعاصر المتأرجح بين التوق والخذلان، الأمل والانكسار. ففي كل مشهد، تمسك بخيوط الإحساس، وتنسج منها وشاحًا يليق بالإنسان، ذلك الكائن الهشّ القوي في آنٍ واحد. حين تضحك، نشعر أن الدنيا أرحب؛ وحين تبكي، يتحول الدمع إلى مرآة ترى فيها قلقك، خوفك، ضعفك النبيل.
هي ليست من أولئك الذين يخوضون التجربة برتابة محفوظة، بل تلقي بنفسها في بحر كل شخصية، تكتشف تضاريسها، تعيش ارتباكها وتوترها، وتخرج منها كما يخرج الشاعر من قصيدته، غارقًا ومولودًا في ذات اللحظة. حتى صمتها ينطق؛ فليلى تتقن لغة النظرة، حركة اليد، ارتعاشة الصوت، كما لو كانت ترسم وجدان الشخصية بالألوان المائية، لا بالكلمات.
ليلى علوي لم تكن يومًا مجرد وجه جميل في زحام الأضواء، بل حافظت على كيانها كفنانة تعرف تمامًا أن الفن الحقيقي ليس ترفًا، بل ضرورة. لم تُفرّط في كرامتها الفنية، ولم تتنازل عن بصمتها التي صارت علامة تميّزها في كل عمل. منذ بداياتها البريئة، وحتى نضوجها الإبداعي، كانت تسير بخطى واثقة لا تستعرض نفسها، بل تقدّم ما يُشبهها: المرأة التي ترى في الفن رسالة، وفي كل دور فرصة للبوح باسم الإنسان.
وفي أزمنة تتكاثر فيها الوجوه وتتشابه فيها التجارب، ظلّت ليلى علوي رمزًا للصدق الفني، لأنها آثرت أن تكون صوتًا للناس، لا صدىً لأهواء السوق. تناولت قضايا المرأة، وآلام المجتمع، وتطلعات البسطاء، دون أن تقع في فخ الشعارات، بل بلغة صادقة تنبع من القلب وتصل إلى القلب. هي ابنة الكاميرا، نعم، لكنها قبل ذلك ابنة الحياة، وتلميذة وجعها ودهشتها الأولى.
ربما سرّ ليلى علوي يكمن في تلك القدرة الفريدة على تحويل الألم إلى جمال، والانكسار إلى أناقة، والعادي إلى استثنائي. حين تنظر إليها، تشعر أن ثمة نورًا يخرج من عينيها، لا لأنهما جميلتان، بل لأن خلفهما تجربة إنسانية عميقة، امرأة واجهت الحياة كما يليق بامرأة حقيقية: بالصبر، والكرامة، والشغف.
إنها ليست متعة للعين فحسب، بل غذاءٌ للروح، وجرعة دفء في زمنٍ بارد. هي تلك الفراشة التي ما زالت تحلّق برشاقة بين الحلم والحقيقة، تبثّ فينا إشراق المعنى وسط عتمة الأيام، وتدعونا، دون أن تقول شيئًا، إلى أن نكون أوفى لذواتنا، أن نحيا بصدق، ونحب بصدق، ونبدع كما لو كنا نحفر أسماءنا في ضوءٍ لا ينطفئ.
ليلى علوي.. اسم لا يزول، لا لأنه شهير، بل لأنه صادق. اسم يشبه الموج حين يعانق الشاطئ، يشبه النسمة حين تلامس قلب المتعب. وكلما مرت السنوات، تزداد بريقًا، لا بفعل المجد، بل بفعل الإنسان الذي يسكن داخلها، ذاك الذي لا يكفّ عن الحلم، ولا يتوقف عن البوح، ولو بالصمت.