السفير د.عادل عيد يوسف يكتب: رقمنة القطاع الصحي في مصر فرص استثمار و شراكة

يوليو 20, 2025 - 00:54
يوليو 20, 2025 - 01:23
السفير د.عادل عيد يوسف يكتب: رقمنة القطاع الصحي في مصر فرص استثمار و شراكة

تأمّل المشهد بعين القلب لا بعين الشاشة: رجل ستيني يجلس في عيادة حكومية، يحمل في جيبه ورقة ممزقة تعود إلى تشخيص أُجري له قبل شهور في مستشفى آخر، ثم يُسأل من جديد عن نفس التحاليل، وتُعاد عليه ذات الأشعة... وكأنّ ذاكرة النظام الصحي تُمحى مع كل صباح. 

وتخيّل أيضًا سيدة مُسنة على كرسي متحرّك تزور أبناءها في محافظة أخرى، فتعرضت لنوبة سكر، وذهبت إلى طبيب غير طبيبها المعتاد. يسألها عن أدويتها، فلا تدري، ولا يستطيع تقديم علاج نافع حتى تعود إلى محافظتها الأصلية. هذه المشاهد تتكرر يوميًا، وتُثقل كاهل منظومة الصحة، وتُفاقم المضاعفات، وقد تؤدي — لا قدّر الله — إلى الوفاة. 

فماذا لو تحوّلت هذه الإجراءات إلى سجل رقمي موحّد على مستوى الدولة؟ سجل ينبض بتاريخ المواطن كما تنبض شرايينه، ويوثّق كل عرض، وكل تحليل، وكل إشاعة، وكل دواء، في منظومة واحدة مترابطة. 

مصر، التي عرفت الطب منذ عهد تحنيط الملوك، تقف اليوم على أعتاب ثورة جديدة: ثورة رقمنة القطاع الصحي. لكنها ليست ثورة تكنولوجيا فقط، بل ثورة رؤية وفلسفة إدارية تنقلنا من منطق المبادرات والموازنات، إلى شراكة استراتيجية بين الدولة والقطاع الخاص، بين الحكمة والابتكار، بين الحوكمة والاستثمار. 

لقد بدأت الرحلة بالفعل بخطط طموحة تحوّلت إلى مبادرات كبرى: التأمين الصحي الشامل، حملة "100 مليون صحة"، وهيئة الرعاية الصحية التي تدير ملايين السجلات الإلكترونية، وتؤرشف الصور الإشعاعية كما تؤرشف الدول تاريخها. 

لكن المشكلة لا تزال قائمة في العمق: الجزر الرقمية. فكل مستشفى يعمل بمعزل، وكأن صحة المواطن تُجزّأ حسب المبنى، لا حسب الإنسان. 

وهنا يتجلّى الوجه الآخر للأزمة: التكرار. تحاليل تُعاد، فحوصات تُكرر، أموال تُهدر، ووقت يُبتلع. تشير بعض التقديرات إلى أن 30% من الفحوصات في مصر مكررة — لا لسبب إلا غياب سجل موحد. وكأن المريض كلما دخل عيادة، عاد إلى طفولته الطبية... بلا ذاكرة، بلا تاريخ. 

فمن أين يأتي الخلاص؟ ليست الموازنة وحدها طوق النجاة، فتكاليف البنية التحتية الرقمية باهظة. والحل لا يكمن في جيب الدولة فقط، بل في عقل السوق. نحن بحاجة إلى شراكة، لا إلى تبرعات؛ إلى استثمار، لا إلى معونة. الدولة تُشرّع وتحكم وتحمي، والقطاع الخاص يُموّل ويبتكر ويقود. 

علينا استغلال ما يُعرف بالسوق الموازي لضخ المليارات في مشروعات وطنية تضمن نجاح الدولة وتدعم استمراريتها بسيادتها. 

هذا النموذج ليس خيالًا. لدينا مثال واضح: مؤسسة كلينتون حين غيّرت قواعد سوق دواء الإيدز من بيع محدود بهوامش ربح عالية، إلى توزيع واسع بهوامش منخفضة. النتيجة؟ دواء كان يُكلف 10,000 دولار أصبح يُباع بأقل من 140 دولارًا. ليس لأن الدواء تغيّر، بل لأن النموذج تغيّر. 

فلماذا لا يكون لمصر نموذجها الخاص؟ بالفعل، بدأت بعض الدول العربية في إنشاء أنظمة موحّدة مثل "ملفي"، "نابض"، "حكيم"، و"نفيس". هذه المشاريع تمثل البنية التحتية الأساسية لمكاسب مستقبلية، وفرص تطوير ضخمة بعد توحيد ملف المريض، ليس فقط كرقم، بل كقاعدة بيانات صحية وطنية. 

لقد جعلت تلك المنصات من السجلات الطبية شيئًا شبيهًا بالهواء: لا يُطلب، بل يُستنشَق. الطبيب يرى ماضي المريض في لحظة، فيمنع التكرار، ويُسرّع التشخيص، ويحافظ على حياة الملايين، ويوفر الملايين من الجنيهات. 

لكن كيف نُمَوّل هذا الحلم؟ المال موجود، لكنه يحتاج إلى إعادة توجيه. شركات التأمين، التي كانت تُتهم بأنها تجني دون أن تُعطي، يمكن أن تصبح شريكًا رئيسيًا. فكل فحص مكرر يُكلّفها، وكل مطالبة زائفة تُنزف من أرباحها. الاستثمار في الصحة الرقمية هو استثمار في الكفاءة. 

وكذلك شركات الأدوية: لماذا تكتفي بالتبرعات الموسمية؟ يمكنها أن تترك أثرًا دائمًا من خلال رعاية ذكية تمنحها موطئ قدم استراتيجي في المنصة الوطنية، وتوفر لها فهمًا عميقًا للسوق من خلال البيانات، لا من خلال الحملات الإعلانية.