السفير د. عادل عيد يوسف يكتب: الفن المصري رسالة عبر الزمان والمكان

الفن هو تجلّ راق لروح الإنسان، ومرآة صافية تعكس جوهر الحضارة، لا تعلو أمة إلا حين يعلو فنها، ولا تخلد إلا بما خلفته من إبداعها. وفي هذا السياق، تتجلى الحضارة المصرية كنموذج استثنائي، إذ نشأ فنها متزامنا مع نشأتها، ومضى شاهدا على عظمتها، ناقلا رسائلها عبر الزمان، منقوشا على جدران المعابد، محفورا في أعمدة المعمار، و مصوّرًا على لفائف البردي. لم يكن الفن في مصر القديمة وسيلة زخرفية، بل لغة خالدة، وثيقة بصرية، حفظت لنا تفاصيل الحياة اليومية والطقوس الروحية، وأنماط الإنتاج، وعقائد المصري القديم في الموت والحياة.
تشير الأبحاث الحديثة إلى أن نحو 80% من معرفتنا الدقيقة بالحياة الفرعونية استمدّت من نتاجها الفني، مما يؤكد أن الفن كان الحامل الأمين لذاكرة أمة، والسجل الذي عبر به المصري القديم من زمنه إلى أزمنة أخرى.
لكن الفن، في بعده الأعمق، لا يكتفي بأن يكون رسالة عبر الزمان فحسب، بل يتجاوز ذلك ليكون رسالة عبر المكان، تتخطى الحدود الجغرافية، وتنقل جوهر الهوية من وطن إلى العالم بأسره. والمصري حين يسافر، لا يحمل جواز سفر فحسب، بل يصطحب في هيئته و لهجته وروحه، إرثا فنياً جميعا يسبقه في الوصول إلى القلوب. في أي دولة عربية، يعرف المصري قبل أن يقدم، وتختفي به لا لصفته الشخصية فحسب، بل لكونه امتدادا لتاريخ فني طويل، تشكل عبر مئات المسرحيات، وآلاف الأغاني، وملايين المشاهد التي غرِست في الوجدان العربي.
لقد أظهر استطلاع رأي أجرته مؤسسة «يوجوف» عام 2024 أن 72% من العرب يُقرون بأنهم تأثروا ثقافيا باللهجة المصرية من خلال الأعمال الدرامية والفنية، بينما تصدرت مصر قائمة أكثر الدول تأثيرا فنياً في العالم العربي بنسبة 68%. وتعد هذه الأرقام شاهدا معاصرا على أنّ الفن المصري لم يعد منتجا محليا، بل صار لغة تواصل عابرة للجنسيات.
ولعل من أبرز الشواهد على ذلك ما عبر عنه وزير الطاقة السعودي خلال مؤتمر التعاون المصري السعودي، حين قال بنبرة وجدانية : «أنا ما أحب في مصر، كل مصر» مستشهداً بجملة من مسلسل مصري شعبي. هذه العفوية تحمل في جوهرها دلالة عميقة: أنّ الفن المصري أصبح مرجعية وجدانية، و سفيرا" ثقافيا يعبر عن شعبه قبل أن يتكلم باسمه.
غير أنّ هذه المكانة التاريخية والمجتمعية للفن تحمل الفنانين مسؤولية أخلاقية ووطنية جسيمة. فليس كل ما ينتج يعد انجازا"، ما لم يكن حاملا لقيم، و محترما لرسالة. إن تصوير المجتمع المصري من منظور وحيد يركز على الجريمة أو الانحراف، ثم تصدير هذا النموذج إلى الخارج، يعد إساءة متعمدة لصورة الوطن، و تشويها لوجهه الحقيقي. إذ إن قرى مصر و مجتمعاتها الأصيلة قامت على الأخلاق، والمروءة، والحياء، وهي اللبنات التي كونت نسيج الوطن عبر اجياله.
وإذا كان الفن قوة ناعمة، فإنّ إهمال معايير الجودة في الإنتاج، أو الانجراف وراء الإثارة على حساب القيم، يعد تفريطا في هذه القوة، و استنزافًا لرصيد مصر المعنوي. الفن ليس أداة ترفيه فقط، بل صناعة لها أثر عابر للزمن، تتراكم في الوعي وتعيد تشكيل الأذواق والسلوك.
إننا ندعو صناع الفن، من كتاب و مخرجين وممثلين، إلى أن يتقوا الله فيما ينتجون، وأن يدركوا أن كل مشهد يعرض، وكل كلمة تقال، قد تكون رسالة خالدة، أو سقطة لا تنسى. فالفن الذي لا يحمل أمانة، يظل فارغا مهما علا صوته، ومهما بلغت شهرته.
يبقى الفن المصري ذهبا لا يصدأ، لكنه لا يلمع إلا حين يصقله الضمير