مصطفى صلاح يكتب: وفاء عامر .. يا أمّ «الوفاء»

في لحظة كالمنزلق، تتبدل المعايير، وتتلوى الحقيقة كما يتلوى الماء بين الأصابع، وتُلقى التهم كما تُلقى الحجارة في بحيرة ساكنة. في لحظة كهذه، استيقظت مصر على خبر كأنّه خرج من فجوة سريالية في التاريخ: وفاء عامر تُتهم ببيع أعضاء لاعب الزمالك السابق إبراهيم شيكا – رحمه الله.
هو خبر لا يُصدّق، لا لأن العقول تأبى، بل لأن القلوب تستحيل عليه.
من تكون وفاء عامر حتى تُزجّ في هاوية كهذه؟
ليست مجرد فنانة، ولا مجرّد وجه من وجوه القاهرة في عصرها المضيء، بل هي امرأة حملت اسمها كما يُحمل النور في قلب الليل، ومشت به وسط أصدقائها، معارفها، جيرانها، وحتى خصومها، شامخة، كريمة، ثابتة على العهد.
يعرفها الوسط الفني والاجتماعي كله بأنها الملاذ الأخير لمن ضاقت بهم الدنيا. لا تلتفت حين يُستغاث بها، ولا تُدير الظهر إذا صاح القلب المجروح. كانت دائمًا هناك، في المواقف، لا على الشاشات. في العزاء قبل الأفراح. في المستشفيات قبل السجادة الحمراء. في البيت المفتوح قبل صالات العرض.
ولهذا كان الخبر ـ رغم غرابته ـ أشبه بالخنجر الصدئ في خاصرة الذاكرة.
هل يُعقل أن تكون هي، وفاء عامر، المتهمة بتلك الجريمة التي تُقشعرّ لها الأبدان؟
هل يُعقل أن تُنسب لها تهمة بيع أعضاء إنسان، وهي التي وهبت أعمارًا كاملة من مشاعرها ووقتها لأصدقائها ومعارفها دون أن تنتظر شيئًا في المقابل؟
الذين يعرفون وفاء، لا يحتاجون دفاعًا عنها، فحياتها وحدها مذكرةُ دفاع كاملة. هي التي حين رحل فنان أو مريض أو شريد، كانت أول الحاضرين، وآخر المنصرفين. وهي التي حين مرض زميل، أو ضاقت به الدنيا، سارعت، لا بكلام، بل بفعل.
أما الراحل إبراهيم شيكا، لاعب الزمالك السابق، فرحمة الله عليه، شاب عرفته الملاعب ورحل في صمت مؤلم، كما يرحل الضعفاء حين تهجرهم الأضواء وتخذلهم الحياة. وبدلًا من أن يُبكى عليه بحب، صار جسده مسرحًا لتهم لا تزال في طور التحقيق، وتحول موته من مأساة إنسانية إلى مادّة للجدل الرخيص.
ومع أن العدالة لا تُنجز على صفحات الفيسبوك، إلا أن الاتهامات المُلقاة كأنها رصاص عشوائي، طالت وفاء كما تطال الشمس في وضح النهار. ولو أنصف القوم، لعلموا أن اسمها كان دومًا مرادفًا للعطاء، وأن قلبها لم يعرف الغدر.
ما ذنب امرأة كانت تعيش بمعنى اسمها؟.. "وفاء" لم يكن مجرد لقب، بل كان طبعًا وسلوكًا. لم تغيّرها النجومية، ولم تغرها الأضواء، وظل بيتها – كما يشهد القاصي والداني – مفتوحًا لكل صاحب حاجة، ولكل عابر سبيل.
حين تُتهم امرأة مثل وفاء عامر، فإن الأمر يتجاوز الشك الشخصي، ليصبح محنة مجتمعٍ خان الذاكرة وركض وراء التشهير. مجتمع يُسارع بالصلب قبل التحقيق، ويغفل عن ماضٍ ناصع لا يُباع ولا يُشترى.
يا وفاء...لا تلتفتي كثيرًا إلى من انقلبوا عليكِ عند أول ريح. أنتِ أسمى من هذه الغمامة العابرة.
التاريخ لا يُكتَب على جدران المواقع، بل في ضمائر من يعرفون الفرق بين السواد والرماد.
وسوف تمرّ هذه المحنة، مثلما مرت الرياح من قبل، ويعرف الناس مجددًا من أنتِ، ومن كانوا.
وإن كان في الأمر كلمة أخيرة، فهي أن الوفاء لا يُحاكم.
والقلوب التي امتلأت بالخير، لا تُفرّغ هكذا بتغريدة أو شائعة.
ستظهر الحقيقة، مهما تأخرت، وسيُفهم أن من تُهدي الناس عمرها، لا تبيع أجسادهم في الخفاء.
وفاء يا أمّ الوفاء... ستخرجين من هذه الدائرة كما تخرج الشمس من خلف السحب، بوجه مشرق، وقلب لم تغيّره الطعنات.
أما الذين طعنوا، فسيمضون في عتمتهم، لأن النور لا يليق إلا بأهله.