مصطفى صلاح يكتب: من قبر الصمت يتكلم محمود عبد العزيز

May 10, 2025 - 17:38
مصطفى صلاح يكتب: من قبر الصمت يتكلم محمود عبد العزيز

أتمشى في الأزقّة التي ما زالت تردد اسمي، في الحواري التي احتضنت صوتي، في الأستوديوهات التي حفظت ظلي على الجدران، أطلّ من شاشة الزمان لا لأنني اشتقتُ إلى أضواء الكاميرا، بل لأن نداء القلب أقوى من سكوت القبر. جئتُ لا لأستعيد مجدًا، ولا لأُنقّب في تراب الفن، بل لأن اسمي نُطق في موضع الريبة، وروحي انتفضت حين سمعت الكذب يُلصق بي، كأنهم يريدون أن يسلبوا عني حتى الصدق الذي عشته، والوفاء الذي أودعته في يد من أحبّتني حتى الرمق الأخير.

أنا محمود عبد العزيز... نعم، أنا هو، لا أزال أذكر كل لحظة، كل ابتسامة، كل يدٍ صفقت لي يومًا حبًّا لا نفاقًا. كنت أمشي على الأرض لا كنجم، بل كواحد منكم، كنت أعرف أن الشهرة زائلة، وأن ما يبقى هو طيب الأثر. وحين اختارتني عيون بوسي شلبي، لم أخترها زوجة أمام المأذون فقط، بل رفيقة عمر، وشريكة ألم وفرح، وظلًّا لا يغيب حتى حين يغيب كل شيء.

أتدّعون الآن أنني طلّقتها؟ أنني، من قلت لها يومًا: "أنتِ أماني حين تتهاوى الأيام"، قد كتبت وراء ظهرها وثيقة فرقة؟ أتزعمون أنني فرّطت في حبي حين كان المرض ينهشني والناس تتأمل ابتسامتي كأن لا شيء يؤلمني؟ كيف ليدٍ كنت أضمّها في دعاء عرفة، وأنا أطلب من الله ألا يحرم قلبي من نورها، أن تُغدر بها في غيابي بورقة مزورة؟

يا مَن تزعمون أني انتهيت، وأن موتي صكٌّ لتزييف إرادتي، اعلموا أني ما متُّ إلا بجسدٍ تعب، أما روحي فهي أعند من أن تُسرق منها الحقيقة. لقد عرفت الحب حين تأخرت الدنيا، وذقت الوفاء حين جفّت الأعين من حولي، وكانت بوسي لا تزال تمسح جبيني، تهمس في أذني بدعاء الشفاء، وتخفي دموعها كي لا أضعف. فهل يُعقل أن أكافئها بالفُرقة؟ أن أتنكر لها وأنا الذي لم أحتمل بعدها عني في ليلة واحدة؟

يا بوسي... يا من وقفتِ إلى جواري كجبل، يا من حفظتِ اسمي بعد موتي أكثر مما فعلوا في حياتي، لا تبكي. أنا هنا. في كل لحظة يشتد فيها وجعك، في كل مرة ينكسر فيها صوتك في المحكمة وأنتِ تقولين: "لم يُطلقني." أنا هنا. لا الورق يُنهيني، ولا القبور تسكت صوتي. أنظري في عيون أبنائي، وقولي لهم: "أبوكم لم يكذب، أبوكم لم يخذل." وإن نسوا، فدعيني أذكّرهم.

لستُ غاضبًا. لا، الموت يعلّمنا الهدوء. لكنني حزين، حزين لأن اسمي وُضع على هامش نزاعٍ رخيص، حزين لأن بعض الورثة نسوا أن الإرث ليس مالًا فقط، بل كرامة، وصورة، وتاريخ لا يُشوّه. أتتمنّون بيتًا؟ خذوه. قطعة أرض؟ اقتسموها. لكن لا تأخذوا مني صورتي في عيون الناس، لا تمزّقوا دفتر حياتي بورقة مزورة.

ما كنت أطلب منكم الكثير، فقط أن تتركوا الحب في مقامه، والوفاء في مكانه، وأن تعلموا أن الميت لا يُدافع عن نفسه، لكنه يئنّ إذا ما استُخدم اسمه طعنًا في الطاهرين.

أشهد أمام الله وأمام الأرواح التي تعرفني: بوسي كانت زوجتي، وستظل زوجتي في قلبي وروحي، لم أطلّقها، ولم أفكر بذلك، ولم أترك لها غير المحبة والدعاء. أما تلك الورقة التي يحملونها، فهي لا تساوي شيئًا أمام دمعةٍ صادقةٍ من عينها، ولا أمام يدها التي أمسكت بيدي في وحدتي، ولا أمام كل نظرة رجاء بعينها وهي تتمنى ألا أفارق الحياة.

عودوا إلى أنفسكم، وتذكّروا أنكم ذات يوم ستقابلون وجهَ ربٍّ كريم، في يومٍ لا ينفع فيه ندم، ولا يُجدي فيه اعتذار. استحلفكم بما تبقّى في القلوب من إنسانية، وبما بقي من ضوء في الضمائر، أن لا تُدنّسوا الحب، ولا تُلوّثوا نقاء القلوب بورقٍ مزيّف. دعوا روحي تهدأ في مرقدها، ولا توقظوا عظامي بالكذب، فإنّ الموتى لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، ولكن أرواحهم تئنّ حين يُزجُّ باسمهم في مواطن الزور.

أنا محمود عبد العزيز، لا أنتمي الآن إلا للصدق، ولا أحمل إلا ذاكرة من نور. وإن كانت الأرواح تُستدعى للفصل، فأنا قد حضرت، لا قاضيًا ولا خصمًا، بل عاشقًا للحقيقة، حارسًا لذكرى امرأة لم تخن، ولم تكذب، ولم تطلب إلا أن يُقال عنها: "زوجة الساحر حتى بعد الرحيل."