في ذكرى رحيله.. رياض الهمشري نغمٌ مشى على قدمين

كتب: مصطفى صلاح
في السابع من مايو، كل عام، يتوقف الزمن قليلًا، وكأنَّ الأوتار التي كانت تشدو في القلب انقطعت فجأة، وكأنَّ عودًا حزينًا خلع أوتاره ومشى في شوارع القاهرة باكيًا... يوم رحيل العبقري الراحل، الذي لم يكن مجرد ملحن، بل كان سُبحَة من نغمٍ، تتدلى من أصابع ملاك... الأستاذ رياض الهمشري، الذي مضى عن دنيانا في مثل هذا اليوم من عام 2007، لكنه لم يرحل.
من يرحل وهو ساكن في صوت عبد الحليم، وفي ظل فريد، وفي حنان أم كلثوم وهي تثني عليه؟ من يرحل وهو الذي سكن في أذن الزمن، وترك صوته على خدّ الوقت علامة لا تُمحى؟
وُلد رياض يوم 9 نوفمبر 1958، في بيت يعرف العود كما يعرف الأم، يعرف اللحن كما يعرف الفجر. واكتُشفت موهبته باكرًا جدًا، وكان له خال لا يقل عنه عشقًا للفن، الفنان صلاح الهمشري، الذي لم يعامله كطفل، بل كمشروع نبوءة موسيقية تمشي على قدمين.
في سن التاسعة، وقف رياض أمام ميكروفون الإذاعة، لا يرتجف، ولا يتردد. صوته كان يعرف الطريق قبل أن يعرف هو النطق السليم للكلمات. غنّى مع فريد الأطرش، وعبد الحليم، ووديع الصافي، الذين لم يبخلوا عليه بالثناء، بل أدهشهم جميعًا. وكانت الست أم كلثوم تقول عنه في المجالس: "ده صوت مش عادي... ده صوت عنده رُقيّ زماننا وإحساس لسه جاي من المدى".
لقد لُقّب بـ"الطفل المعجزة"، لا لأنه أدّى أدوار سيد درويش وزكريا أحمد كالكبار، بل لأنه كان يضيف إليها روحه الصغيرة التي كانت تتّسع، عجيبًا، لآلاف الأرواح.
وفي عام 1969، استوقف صوته بعثة التلفزيون الياباني، كأنهم وجدوا في هذا الفتى كنزًا من تراث الشرق لا يجب أن يضيع، فقاموا بتسجيل مجموعة من أغانيه تحت إشراف زكريا الحجاوي، رجل الفن الشعبي الذي يعرف متى يمر طيف العبقرية أمامه.
لم يكن رياض مطربًا فحسب، بل ممثلًا حين تطلب الأمر. قدّم دور الموسيقار محمد فوزي في مسلسل إذاعي نادر، وأبدع في تقمّص الشخصية وكأنَّه عاش زمن فوزي، وعرفَ حزنَهُ وحنينَه.
لم يبخل رياض على الوطن يوم ناداه، فغنّى على الجبهة، وأحيا الحفلات للجنود، وكان صوته بمثابة تميمة وطنية تُشد بها العزائم، وتحيا بها القلوب. ولأجل ذلك نال أوسمة من القوات المسلحة، ليست بسبب النغم فقط، بل لأنه كان جزءًا من نبض مصر في وقت الحروب.
ومع مطلع التسعينيات، بدأ رياض يظهر كملحنٍ ذي طابع خاص، له مذاق لا يخطئه القلب. أطلق ألبومه الأول "هاتي"، وغنّى من ألحانه وألحان غيره، فعرّف الناس على اسم كان سيصبح فيما بعد من أغزر وأهم من لحّنوا في تاريخنا المعاصر.
ثم جاءت لحظة الإشراق الكبرى حين بدأ زملاؤه من المطربين الكبار يطلبون ألحانه:
مدحت صالح غنّى "ولا طير ولا شاطئ"،
محمد الحلو قدّم "لا الغربة بينا"،
علي الحجار صرخ بـ"انكسر جوانا شيء"،
ثم توالت الأصوات: عمرو دياب، محمد فؤاد، أنغام، منير، أصالة، هشام عباس، تامر، شيرين، فضل شاكر، سميرة سعيد، حكيم، حسن الأسمر، مصطفى قمر، غادة رجب...
كل هؤلاء، غنّوا من روحه، من نبض قلبه، من وجع لحّانه الذي لم يكن يصنع النغمة، بل كان يولدها من روحه كما يولد الشعر من الشاعر المسحور.
نعم، كان رياض الهمشري "ملحن بلا تصنيف"، كما يحب محبوه أن يصفوه. لم يكن مغرمًا بنمط واحد، بل كان يطرق أبوابًا كثيرة من الغناء، فيفتح كل باب بلحنٍ يناسبه، كما يفتح الكفيف باب قلبه بالحس لا بالنظر.
وقد لحّن برامج لا تُنسى، كـ"كلام من دهب"، و"ليلة العمر"، و"الست دي أمي"، وكانت تلك الألحان بمثابة هدايا موسيقية للناس بعد يوم طويل.
ولم يكن بعيدًا عن الشاشة، فقد لحّن موسيقى وأغاني أفلام أيقونية: "حرب الفراولة"، "كماننا"، "حبك نار"، "ليه يا هرم"، "زكي شان"، "صعيدي في الجامعة الأمريكية"، و"همام في أمستردام"، وغيرها من الأعمال التي لا تُذكر إلا ويُذكر معها توقيع رياض.
وكانت المسرحيات كذلك في حُسبانه: "عفروتو" و"حكيم عيون" تسكن فيها ألحانه كما تسكن الروح في الجسد.
في عام 2000، حين استُشهد الطفل محمد الدرة، لم يسكت، بل لحّن أوبريت "القدس هترجع لنا"، كأنّه أراد أن يقول إن النغمة مقاومة، وإنّ الدمع يمكن أن يكون لحنًا، وإن العود لا يُحمل فقط في الأفراح.
ثم عاد في 2003 بأوبريت "إيد على إيد"، ليعلن من جديد أن صوته وعوده وموهبته مع مصر... دائمًا.
نال جائزة الفارس الذهبي من وزير الإعلام الأسبق صفوت الشريف، لكنه لم يكن في حاجة إلى جائزة، فجوائز الناس كانت أصدق: حبهم، تقديرهم، إحساسهم به وهو خلف الكواليس يصوغ الجملة الموسيقية كما يُصاغ الحلم.
ثم... رحل.
في 2007، حمل حقيبته إلى لبنان، هناك حيث الهدوء، لكنه لم ينجُ من الرحيل... سافر بلا عودة. لكنه تركنا، نعم تركنا، ممتلئين به.
فكيف يُقال إن رياض الهمشري قد مات؟
وهل يموت من لحّن للجرح والفرح؟ وهل يموت من سكن في صوت شيرين، وفي دمعة محمد فؤاد، وفي قفلة أنغام، وفي نداء منير؟
رياض الهمشري لم يكن مجرد ملحن. كان نغمة إنسان، كان دمعة لحن، كان وجع عود... وكان بيننا.
في ذكراه، نترحّم على الجسد، ونبقى على العهد مع روحه، أن نُصغي، أن نُحب، أن نغنّي له، وأن نقول له في سرّنا:
شكرًا يا رياض... علّمتنا أن الموسيقى ليست أصواتًا، بل أرواح تمشي وتبكي وتضحك وتُحب.
رحمك الله، يا من لحّنت أيامنا... ومضيت.