مصطفى صلاح يكتب: سعاد كفافي وصفية زغلول.. أمّان في حب مصر وبناء الأجيال

هناك أسماء لا تكتب بالحبر، بل تُخطّ في القلوب بحروفٍ من ضوء، لأنها لم تكن مجرد شخصيات عابرة في التاريخ، بل كانت شموسًا أشرقت في زمنها وما زال نورها مستمرًا، يضيء الطريق لأجيالٍ لم تولد بعد. الدكتورة سعاد كفافي واحدة من هؤلاء العظماء، امرأة اختارت أن تهب حياتها للعلم، فكانت أمًّا لكل طالب، ومربية لكل باحث عن المعرفة، ورائدة وضعت بصمتها العميقة في مستقبل التعليم بمصر. لم تكن مجرد أستاذة جامعية أو مؤسسة أكاديمية، بل كانت روحًا نابضة بالعطاء، إنسانة بحجم وطن، وحلمًا يمشي على الأرض، وواحدة من القلائل الذين صنعوا مستقبلًا مختلفًا لأبناء مصر.
لم يكن لقب «أم التعليم» مجرد تكريم، بل كان انعكاسًا حقيقيًا لدورها العظيم، كما كانت صفية زغلول «أم المصريين»، لأن كليهما حمل على عاتقه مسؤولية البناء، واحدة بنت جيلًا واعيًا يدافع عن الوطن، والأخرى بنت عقولًا مستنيرة تصنع الغد. فمنذ اللحظة الأولى، لم يكن التعليم عند الدكتورة سعاد كفافي مجرد مهنة أو وظيفة، بل كان رسالة مقدسة آمنت بها، وحملتها بقلبها قبل عقلها، وأعطتها من روحها كل ما تملك، فكانت نموذجًا نادرًا للعالم الجليل، والقائد الحكيم، والأم الحقيقية التي تحتضن أبناءها بيد وتفتح لهم أبواب المستقبل بيد أخرى.
حين أرادت أن تؤسس صرحًا تعليميًا، لم تسعَ وراء إنشاء مجرد جامعة تقليدية، بل كانت رؤيتها أكبر وأعمق، كانت تريد أن تبني منارة علمية تكون نقطة تحول في تاريخ التعليم المصري، فأسست جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، ذلك الصرح الذي أصبح بيتًا للعلم، ومهدًا للأمل، وموطنًا لأحلام آلاف الشباب الذين وجدوا فيها فرصة للحياة، ومكانًا يحترم عقولهم، وينير لهم الطريق. لم يكن إنشاء الجامعة مجرد قرار إداري أو مشروع استثماري، بل كان حلمًا شخصيًا حملته بداخلها، وسعت بكل طاقتها ليصبح حقيقة، حتى غدت الجامعة اليوم نموذجًا يحتذى به، ومؤسسة أكاديمية تنافس كبريات الجامعات العالمية، كل ذلك بفضل إيمانها العميق بأن العلم هو السلاح الوحيد الذي لا يصدأ، ولا يخذلك، ولا يخونك، بل يرفعك إلى أعلى القمم ويمنحك الخلود.
لم تكن ترى طلابها مجرد أرقام في سجلات الجامعة، بل كانت تراهم أبناءها، كانت تتابعهم، تسأل عنهم، تدعمهم، تفرح لنجاحهم وكأنها أم ترى ابنها يخطو أولى خطواته في الحياة. لم تكن تعاملهم كأستاذة جامعية تتعامل بصرامة، بل كأم تعرف أن وراء كل طالب حلمًا، ووراء كل حلم قلبًا نابضًا بالأمل، ووراء كل قلب روحًا تبحث عن فرصة. لم يكن لديها تفرقة بين طالب وآخر، كانت ترى الجميع بعين واحدة، هي عين الحب والمسؤولية، لذلك لم يكن غريبًا أن يذكرها طلابها اليوم، وبعد كل هذه السنوات، بنفس المشاعر التي يُذكر بها الأبناء أمهم حين يشتاقون لدفء حضنها.
كانت سيدة لم تُحب الأضواء، لكنها صنعت ضوءًا لا ينطفئ. لم تسعَ وراء الشهرة، لكن اسمها صار عنوانًا لكل حديث عن التعليم في مصر. لم تطلب مقابلًا لعطائها، لكنها حصدت أعظم مكافأة يمكن أن يحصل عليها إنسان: حب الناس وخلود الأثر. كانت تعلم أن بناء العقول أصعب من بناء الجدران، لذلك اختارت الطريق الصعب، الطريق الذي يتطلب صبرًا وإيمانًا، وسنواتٍ من العمل الدؤوب، لكنها لم تتراجع لحظة، ولم تتردد ثانية، لأنها كانت تؤمن بأن التغيير الحقيقي يبدأ من التعليم، وأن الوطن لا يتقدم إلا إذا كان لديه جيل متعلم قادر على حمل الراية والمضي بها إلى الأمام.
وحين رحلت عن عالمنا، لم ترحل حقًا. هناك من يظن أن الموت يعني النهاية، لكن العظماء مثل سعاد كفافي لا يموتون، بل يحيون في كل إنجاز تعليمي، في كل طالب تخرج من جامعتها وحقق حلمه، في كل معلم تأثر برؤيتها وأكمل مسيرتها، في كل إنسان آمن برسالتها وسار على دربها. لم ترحل لأنها موجودة في قلوبنا، في عقولنا، في كل فكرة نيرة، وكل حلم تعليمي صار واقعًا، وكل مستقبلٍ كان يمكن أن يكون مظلمًا لولا نورها الذي أضاءه.
إنها «أم التعليم»، ليس فقط لأنها أسست جامعة، وليس فقط لأنها غيرت وجه التعليم في مصر، ولكن لأنها حملت على عاتقها مسؤولية بناء الإنسان قبل بناء المؤسسة. وكما كانت صفية زغلول أماً للمصريين في نضالهم الوطني، كانت سعاد كفافي أماً للتعليم في مصر، تقاتل من أجل مستقبل أكثر إشراقًا، وتناضل من أجل أن يكون العلم هو الدرع الحامي للأجيال القادمة.
هذا اللقب ليس مجرد كلمات تقال، بل هو عهد علينا جميعًا بأن نكمل رسالتها، ونحافظ على إرثها، ونظل أوفياء للفكر الذي زرعته فينا. فكما زرعت هي بذور المعرفة، علينا أن نرويها، وكما حملت هي الشعلة، علينا أن نحميها من الانطفاء. مصر لن تنسى أبدًا هذه السيدة العظيمة، لأن الأوطان لا تنسى من صنعوا لها المجد، والعقول لا تنسى من أناروها، والقلوب لا تنسى من علموها كيف تحب.
رحم الله الدكتورة سعاد كفافي، وجزاها عن مصر خير الجزاء، وجعل علمها شفيعًا لها في جنات النعيم. ستظل سيرتها العطرة نورًا يضيء لنا الدرب، وسيظل اسمها محفورًا في تاريخ هذا الوطن، لأنها لم تكن مجرد إنسانة مرت في الحياة، بل كانت حياة كاملة في إنسانة واحدة.