في صحبة الرومي ومارشيليان... إلهام شاهين تصنع لحظة لا تُنسى

كتب: مصطفى صلاح
في حضن الطبيعة، حيث تصمت الضوضاء وتعلو همسات الروح، وحيث يتجلّى الجمال في أدق تفاصيل الأرض والسماء، كان اللقاء. وادي قنوبين، ذلك السكون الممتد في أعماق لبنان، لم يكن يومًا مجرّد مكان، بل أشبه بمحراب يتعبد فيه الجمال، وتنبثق منه أسرار الخلق الأول. هناك، حيث تتصافح الغيوم مع رؤوس الجبال، وتتدلّى أشعة الشمس على أغصان الأرز كما لو كانت رسائل نور، وقفت الفنانة إلهام شاهين في مشهد يشبه القصيدة، ويقترب من النبوءة.
ليس غريبًا أن يختار الجمال مَن يشبهه، وأن يُفصح المكان عن أسراره لمن يحملون قلوبًا شفافة، وعقولًا توقن أن في التأمل خلاصًا، وفي الفن حياة. في تلك اللحظة النادرة التي جمعت بين الطبيعة والإنسان، كانت إلهام شاهين أكثر من زائرة، وأكثر من فنانة. كانت شاهدة على دهشة الخلق، وفاعلة فيه، تضيف إليه من رهافتها وبصيرتها ما يجعل للمشهد نكهةً لا تُنسى.
إلهام شاهين... الوجه الذي لا يغيب عن ذاكرة الفن العربي، والروح التي لا تزال تمضي بثبات، كما تمضي الأنهار في مجراها، متجاوزة كل ما يعترضها. هي امرأة من طراز خاص، لا تكتفي بأن تكون نجمة، بل تُصرّ على أن تكون ضميرًا حيًّا، وعينًا يقظة على الحياة. في حضورها، يختلط الفن بالإنسان، ويبدو المشهد كما لو أنه مرآة لعوالم داخلية لا تُرى، لكنها تُحسّ، وتُوقظ فينا ما كدنا ننساه.
في وادي قنوبين، بدت إلهام شاهين كما لو كانت جزءًا من المكان، قطعة من ذاكرته أو امتدادًا لروحه. بعينيها اللامعتين، وبصمتها المفعم بالمعنى، انحنت أمام الطبيعة لا خضوعًا، بل امتنانًا. كانت تنظر إلى البعيد نظرة مَن رأى أكثر مما يُقال، وسمع أكثر مما يُروى. وحين تحدثت، لم تكن الكلمات سوى صدى لروح امتلأت بالفن والحياة، واعتادت أن تمنح الآخرين من نورها دون أن تنتظر مقابلًا.
برفقتها، كانت الفنانة الكبيرة ماجدة الرومي، تلك التي تُصلي بصوتها كما تُصلّي الأرض بندى الفجر. إلى جانبها، الكاتبة الحساسة كلوديا مارشيليان، التي تكتب كما تُحب، وتُحب كما تكتب. ثلاث نساء من نور، اجتمعن في لحظةٍ صافية من العمر، فكان الجمال هو الحاضر الأكبر، وكانت إلهام شاهين هي الروح التي تسري في التفاصيل، وتُعطي لكل شيء بُعدًا إضافيًّا.
الذين يعرفون إلهام شاهين عن قرب، يدركون أن ما يظهر على الشاشة هو مجرد ملامح أولى، وأن الجوهر أعمق بكثير. إنها ليست فقط فنانة اختارت الأدوار الصعبة، وواجهت بالدراما معارك المجتمع والمسكوت عنه، بل هي إنسانة تحمل في قلبها حنان أم، وفي ملامحها وعي امرأة عركتها التجارب، فلم تنكسر، بل ازدادت بريقًا. حضورها لا يُشبه حضور الآخرين، فهي لا تكتفي بأن تكون في المشهد، بل تمنحه حضورها، تُضفي عليه لمستها، وتترك فيه من طاقتها ما يجعل الصورة أكثر حياة.
في ذلك النهار اللبناني، لم يكن المكان وحده هو الجمال، بل كانت إلهام شاهين إحدى ملامحه. بهدوئها، وابتسامتها، وتلك اللمعة الخفية في عينيها، أعادت تعريف العلاقة بين الفنان والمكان. لم تكن تلتقط الصور لتُضيف إلى أرشيفها، بل كانت تعيش اللحظة بكاملها، تتنفسها، وتتأملها، وتُحوّلها إلى ذكرى نابضة لكل من شاركها المشهد.
لبنان، الوطن الذي لا يشيخ في عيون المحبين، احتضنها كأنها ابنته. وهي، بدورها، أحبّته كما يُحب العاشق محبوبه الأول. لم تكن الغابات مجرد خلفية، ولا الجبال مجرد زينة. كل شيء كان ناطقًا بالحياة، وكانت إلهام شاهين تُنصت. ربما لهذا بدا يومها هناك كأنه عودة إلى الذات، إلى الأصل، إلى ما يجعل الفن والفنان إنسانًا قبل أي شيء.
ولأن الفن الحقيقي لا ينفصل عن الحياة، فقد كانت هذه الرحلة أشبه بحجّ صامت، إلى حضرة النقاء. في سلوكها، لم تكن إلهام شاهين تستعرض، بل تتأمل. وفي نظراتها، لم تكن تستعرض مشهدًا، بل تعيشه. لقد أكدت من جديد أن الفنان الحقيقي هو ذاك الذي يعرف كيف يصمت أمام الجمال، وكيف ينحني إجلالًا للحظة صدق، مهما بدت بسيطة.
إلهام شاهين ليست فنانة فقط، بل حالة إنسانية نادرة، مزيج من الصدق والعناد، من الشغف والهدوء، من الذكاء والبساطة. في حضورها، تشعر أن الحياة لا تزال بخير، وأن الفن لا يزال قادرًا على أن يغيّر، لا بالشعارات، بل بالمواقف. وأن الجمال، حين يمر من قلبٍ صادق، يترك أثرًا لا يُمحى.
في وادي قنوبين، اكتمل المشهد بامرأة تعرف كيف تصغي للكون، وكيف تمنح الحضور بعدًا روحيًّا. هناك، بين الشجر والحجر والنور، كانت إلهام شاهين تتوهج كأنها من ضوء، وتهمس للحياة: "أنا هنا... وأحبكم".