مصطفى صلاح يكتب: هالة صدقي.. جدارية فنية لا تُهزم أمام ضوضاء الادّعاء

حين تسرّبت القيم من بين أهداب الفن، كما يتسرّب الماء من الأصابع المرتعشة، تقف هالة صدقي شامخة كجدارية قبطية لم ينل منها الزمن، ولم يفلح الحاقدون في خدش وهجها. هي ليست مجرد ممثلة أدّت أدوارها ببراعة، بل هي حالة وجدانية نادرة، امرأة تقف على تخوم الرقي والصدق، وقد اختارت منذ البدء ألا تنحني إلا للموهبة، وألا تساوم على شيء سوى كرامتها وضميرها الفني.
وُلدت هالة وفي عينيها حنينٌ قديم، كأنها تنتمي إلى زمن الأيقونات التي لا تُعاد. نشأت في بيت يفيض دفئًا ومحبة، وكانت ملامحها المصرية القبطية تشير باكرًا إلى مزيجٍ نادرٍ من الجمال والإرادة. درست الأدب والفن، وعشقت الأداء وكأنها تتلو صلاة خفية في محراب المسرح والتصوير.
منذ طلّتها الأولى على الشاشة، لم تكن مجرد وجه جميل يطلّ من خلف العدسة، بل كانت حضورًا آسرًا، قادمًا من مساحات الصدق، مشبعًا بوعيٍ ثقافي لا يُصطنع، وحضورٍ إنسانيّ لا يُزوّر. أخذت أدوارها من روحها، وصبغت الشخصيات التي أدّتها بألوان قلبها، فحين نراها، لا نرى "هالة" بل نرى المرأة في أبعادها كلّها: الأم، الحبيبة، المنكوبة، الساخرة، الحكيمة، الصابرة، الثائرة، العابرة.
في زمنٍ كان فيه بعض الفنانين يركضون خلف وهجٍ زائف، كانت هالة تزرع في صمت. لم تلهث خلف بطولة مستعارة، ولم تتورط في استعراضات الكلام. كانت تؤمن أن الكلمة مسؤولية، وأن الفن الحقيقي لا يُقاس بعدد الأدوار، بل بعمق التجربة. وهكذا، شقّت طريقها ببطء المحترفين وحنكة العارفين، حتى صارت كما هي اليوم: واحدة من أعمدة الفن المصري النبيل.
لكن، كما هي سنة الحياة، لا يمر الضوء إلا ويطارده ظلّ. ولأن هالة تمثل النقاء وسط ضجيج الاصطناع، ولأنها تملك ما لا يُشترى، فقد تعرّضت أخيرًا لهجومٍ من بعض الذين يتسلقون على جدران الموهبة، ويتوارون خلف ستائر ادعاء الفن التشكيلي، ظانّين أن قليلًا من الألوان يضفي على لوحاتهم قيمة، أو أن "الضوضاء" تغنيهم عن "الصوت".
كان هجومًا لا يحمل سوى مرارة الفشل، وارتباك الحاقدين، ممن لم يجدوا لأنفسهم موطئ قدم في مساحات الضوء، فقرروا أن يرموا حجارتهم على شمسٍ لا تُطفأ. لكن هالة، وكعادتها، لم ترد. لم ترفع صوتها في الميدان، لأن مَن تعوّد الطيران لا يُجيد الهبوط إلى حضيض الحسد. تجاهلت الكلمات الجارحة كما تتجاهل السحب الكلاب النابحة في الطرقات.
إن هالة صدقي، في صمتها، كانت أشجع من كل الكلمات. لم تهتم، لأنها تعلم أن الموهبة لا يزعزعها افتراء، وأن الأصل لا يُنافسه الطارئون. كم من مرة صبرت! وكم من مرة تمّ الزجّ باسمها في معارك لم تخترها! لكنها كانت دومًا تخرج من المحن أنقى، كأن الألم عندها يصبح طقسًا للتطهير، لا عبئًا للانكسار.
إن هالة صدقي لا تحتاج إلى من يدافع عنها، فمشوارها الفنيّ الممتدّ منذ ثمانينات القرن الماضي، هو أفضل مرافعة. أدوارها في السينما والتلفزيون، من "أرابيسك" إلى "هي فوضى"، تكشف امرأة تتنفس فنًّا، وتحيا بالشخصية لا عليها.
وفي ظلّ هذا الواقع الذي بات فيه البعض يلهثون خلف اللايكات، ويقيسون القيمة بعدد المتابعين، تظهر هالة كصوتٍ عميق، لا يُستدرج إلى السطح. فهالة ليست ترندًا، ولا فقّاعة إعلامية. إنها من ذلك الطراز الذي إذا غاب، شعرنا بأن في الفن ثقبًا لا يُملأ، وأن زمنًا قديمًا قد رحل.
في حديثها، دفءُ امرأة اختبرت الحياة، وخاضت معاركها الكبرى بصبر الأنبياء. في ضحكتها، حكمةٌ من مرّ على الألم وخرج منه شاعرًا. وفي سكونها، احتقار لكل من أراد أن يجعل من الفن سوقًا للنميمة الرخيصة.
لذلك، نقولها اليوم، لا دفاعًا بل احتفاءً: هالة صدقي ليست مجرد فنانة، بل حالة مصرية إنسانية رفيعة. هي تجسيد للأصالة والرقي والإخلاص. ومن يشكك في ذلك، فليُنصت لأعمالها، لا لثرثرة المشوّهين، فالفن الصادق لا يحتاج إلى شهود، لأنه ذاته شهادة لا تنكرها الأيام.