مصطفى صلاح يكتب: «سليمان عيد» حُرِم من نجومية الشباك ليصبح نجم القلوب.. «كلنا جنازات مؤجلة»

أبريل 18, 2025 - 19:41
أبريل 19, 2025 - 15:01
مصطفى صلاح يكتب: «سليمان عيد» حُرِم من نجومية الشباك ليصبح نجم القلوب.. «كلنا جنازات مؤجلة»

لم يكن خبر وفاة الفنان سليمان عيد مجرّد سطر عابر في ركن من أركان الأخبار الفنية، بل كان زلزالًا في وجدان محبيه، صدمة ثقيلة في قلب كل من عرفوه أو حتى شاهدوه مرة واحدة وهو يضحك دون تصنّع، ويبكي دون مشهد تمثيلي، ويؤدي أدواره كما يؤدي الإنسان صلاته الأخيرة: بخشوع، بصدق، بتسليم.

مات الطيب، مات ابن الناس، مات الوجه المألوف في البيوت، الذي كنا نراه فنبتسم لأن الدنيا ما زالت بخير، ولأن الشاشة لم تخلُ بعد من الطيبين. مات سليمان عيد بعد ساعات قليلة من حضوره جنازة صديقه المنتج صلاح حسن، الذي مشى خلفه، ووقف على قبره، وقرأ الفاتحة على روحه... وكأنه يُودّع نفسه من حيث لا يدري، ويُمهّد لطريقه دون أن ينطق بكلمة وداع.

ساعات قليلة فقط، ويغادرنا هو الآخر، بنفس الهدوء، بنفس الخفة، كأنه لم يشأ أن يُقلقنا أو يرهقنا بحزنه. كأنه اختار الرحيل بصمت، حتى لا يزعج أحدًا.

"كلنا جنازات مؤجلة".. كلمات ليست للزينة، بل للحقيقة، تطرق رؤوسنا كلما سبقنا أحد إلى التراب. كلنا نحيا وكأن الموت لا يرانا، أو كأننا لا نراه، حتى يأخذ من بيننا وجهًا ألفناه، وضحكة أحببناها، فيوقظنا على الحقيقة التي نغفلها كل يوم: نحن في طابور طويل، كلٌ بموعده، وكلٌ برحلته.

وها هو سليمان عيد، الذي طالما رسم البهجة في المَشاهد، يتركنا في مشهده الأخير، مشهد لا نُدرك إن كان مؤلمًا أكثر، أم جميلًا في بساطته وهدوئه.

فالموت لم يأخذه من فراش مرض طويل، ولم يُمهله حتى يودّع. بل جاءه على حين دمعة، على حافة قبر، وكأنه لم يحتمل حزنه على صديقه، فاختاره الله ليكون معه.

كان سليمان عيد ممن لا يحجزون الصفوف الأولى في المهرجانات، ولا يتزاحمون على أدوار البطولة، لكنه حجز مقعدًا دائمًا في قلوب الناس. كان يسرق المشهد دون أن يتعمّد، لأن الحضور الحقيقي لا يُشترى، بل يُولد مع الإنسان.

رحل من كان يختصر بسمة مصرية خالصة، ابن البلد، والجار الطيب، والصديق الجدع، والفنان الذي نثق فيه حتى حين يمثل دور نصاب أو مجرم، لأننا نعلم أن قلبه في الحقيقة أبيض كحكايات الطفولة، ورغم تعدد أدواره، لم يُعرف إلا بشخصه، لم نخلطه يومًا بغيره، لأن الصدق لا يُشبه أحدًا.

كم هو موجع أن نقرأ خبر وفاته، بعدما رأيناه بالأمس واقفًا، يُعزّي، يضمّ، يُواسي... وكأن الدنيا كانت تكتب لنا المشهد الأخير دون أن ندري، وكأن الله أراد أن يُذكرنا أن الموت أقرب مما نظن، وأن السيرة الطيبة هي الشيء الوحيد الذي لا تدفنه التربة.

الذين يرحلون دون ضجيج، هم الذين يصنعون أكبر ألم، ورحيل سليمان عيد لم يكن مجرد فقد لفنان، بل فقد لجزء من روحنا، من ذكرياتنا، من إنسانيتنا التي كنّا نختبرها حين نراه، ونشعر بأن العالم ما زال بخير ما دام هذا الوجه الطيب حاضرًا.

لم تكن حياته حافلة بالبطولات، لكنها كانت مليئة بالمواقف النبيلة. لم يكن يتحدث كثيرًا، لكنه كان يقول كل شيء بعيونه، بضحكته، بصوته المتواضع، بروحه الخفيفة.

وقد اختار أن تكون نهايته خفيفة أيضًا، بلا مشهد تمثيلي، بلا وداع طويل، بلا بكائيات. فقط... غادر كما عاش: بسيطًا، عابرًا فينا كنسمة، لكنه باقٍ فينا كوجع.

نعم، «كلنا جنازات مؤجلة»، لكن بعضنا يرحل، ويأخذ معه جزءًا من النور، وسليمان كان من هؤلاء... أولئك الذين لا يعوضهم الفن، ولا تكرّرهم الحياة، ولا تمحو ذكراهم أيامي.

وإن كانت جنازته قد مرّت، فإن ذكره لن يمر، وإن سكن التراب، فإن صورته ستظل تسكننا.. لأن الطيبين لا يموتون فعلاً، بل يغيبون قليلًا لنعرف قدرهم، ثم يعودون كلما اشتدّ علينا الحنين، في مشهد، في دعاء، في ضحكة نحتاجها فلا نجدها إلا في أرشيفهم الطيب.

رحمك الله يا سليمان..كنت ضيفًا خفيفًا على الشاشة، وصديقًا دائمًا في الذاكرة.. رحلت سريعًا.. لأنك أنهيت رسالتك مبكرًا، وقلت كل ما يجب أن يُقال، وتركت لنا جملة واحدة نردّدها في وجع:

«كلنا جنازات مؤجلة»... فهنيئًا لمن ترك بعده دعوةً طيبةً، وسيرةً لا تموت.

رحم الله سليمان عيد، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه عنّا خيرًا على كل بسمة منحنا إياها.