مصطفى صلاح يكتب: بوسي شلبي بين نار الحزن وجمر العطاء.. أنين امرأة لم تتراجع عن حبها رغم الألم

في مدارات الذاكرة التي لا تذوي، وتحت سماء الألم التي لا تنقشع، تقف روحٌ صامدة، امرأةٌ حملت بين ضلوعها أمانة الوفاء، ونصرت الفقد، وشهدت على زمنٍ ضاع فيه العهد، وتلاشت فيه المروءة، فصارت المواجع صدى لا ينقطع في أروقة القلب. هي التي كانت منارةً لا تنطفئ، تُضيء دروب الذكرى، رغم جحود من كانوا بالأمس حلفاء، وها هم اليوم ينسون أو يتجاهلون، أو يزيفون الحقيقة بما يخدم غرورهم واحتكارهم لاسمٍ صنع المجد بعرق الجبين، وبصمت القلوب.
تلك المرأة، التي نحتت بيدها من الألم تاجًا من الصبر، لم تُبقِ لنفسها من خيار سوى أن تتوشح بالحزن، وأن تسير في صمتٍ مع كل خفقة قلب تدعو لذكرى رجلٍ رحل، لكنه ترك وراءه نفوسًا تتناحر على حقٍ أبديّ لا يقاس بالميراث، ولا يوزع بأوراق، بل يُكتب بأحرف من نور في صفحات الروح. كيف للوفاء أن يكون جرمًا، وكيف للإخلاص أن يُطرد من بيوت المحبة، لتغدو الذكرى جريمة يُحاسب عليها المخلصون!
أما هو، ذاك النجم الذي أضاء سماء الفن وأشرقت به الأنامل، فقد ترك إرثًا من العشق للوجود، لكنه ترك خلفه أبناءً تاهوا في متاهات الميراث، ناسين أن الحب لا يُورث، وأن العشرة لا تُكتب بيدٍ غير أمينة، بل يُولد مع روح المحب، ويُحتفظ به في جوف القلب، حتى لو تباعدت الأجساد، وتبدلت الأيام. هؤلاء الذين احتكروا الذاكرة كما يحتكر الظلام الضوء، وهم يعتقدون أن الذكرى ملكٌ لهم وحدهم، وكأنهم وحدهم يستحقون أن يرفعوا الشعلة، ويحيوا الباقي من الألم والحنين.
أيها الظالمون، يا من أسقطتم راية الوفاء في وحل الجحود، هل ظننتم أن الخيانة تنال من الحقيقة؟ هل اعتقدتم أن الصمت يُخفي صوت المحبة؟ لا تعلمون أن في كل دمعة صمت، نارًا تشتعل في ميزان السماء، وأن يوم الحساب آتٍ لا محالة، حيث لا نسب ولا مال، بل يقف الجميع أمام العدل الحق، فلا ضوء إلا لذي أنار القلوب، ولا عزوة إلا لمن حمل الوفاء في صدره رغم كل الجراح.
وهي، تلك التي لم تجلس على موائد التفاوض، ولم تطلب ميراثًا ماديًا، بل كانت على الدوام في محراب الحب، تخاطب الروح التي رحلت، تُسقيها دعاءً، وتمسح عليها دموعًا، وهي تعرف أن الحب لا يُقطع بالموت، ولا تنفصل الأرواح بين أيدي الدنيا العابرة. وقفت وحدها، لا لتتحدّى، بل لتشهد على عهدٍ أبدي، ولتخلف وراءها صوتًا لا يَسكت، وقلبًا لا ينسى، ووجدانًا لن يتغير.
لو أدركوا، لعلموا أن الحقيقة لا تُحتكر، وأن الوفاء لا يُقسّم بوصايا الورثة، بل هو نبضٌ ينبعث من رحم الألم، وهو نورٌ في ليل الظلم، لا تخفت شعاعته مهما حاولوا إطفاءه. فمن وقف مع الحب بصدق، لا تُهان ذكراه، ولا يُمحى أثره، بل يزداد بريقه كلما علت صرخات الحسد، وتعمقت جراح الغدر.
في عالمٍ ظنّ البعض أنه بات يدار بأوراق العقود والوصايا، نسوا أن الروح أسمى وأسمى، وأن الحب أصدق وأصدق، وأن من وهب قلبه لآخر، لا ينقطع ذلك العهد إلا حين ينفصل النفس عن الجسد، ولا يُنسى من أحبّ بصدق مهما غابت الأجساد.
ألا ترى، كيف تُكتب المآسي على جدران الصمت، وتُرسم الخطايا بألوان الجحود؟ كيف يتحول الوفاء إلى جريمة تُعاقب عليها القلوب، وكيف يُسجن الحب خلف قضبان الغدر والنسيان؟ هي مأساة لا ترويها كتب التاريخ، ولا تسمعها الأذن، إلا حين يتبدى صوت الحزن في صمت المشتاقين، وتذرف العيون دموعًا لا تُحصى، لكنها دموع لا تُسقط حقًا ولا تُبقي سوى الشهادة.
وفي رحاب الأسى، تنبثق حقيقة واحدة، لا تزيغ ولا تحيد: أن الحق لا يموت، وأن صوت الوفاء لا يختفي، مهما طال الغياب ومهما كثرت الخيانات. إن الوفاء، تلك القيمة النبيلة التي لا يُفهمها إلا النبلاء، هي الملاذ الأخير لكل مَن أحبّ بصدق، والدرع الحصين الذي لا ينكسر أمام عواصف الجحود.
وها هي تلك المرأة، التي باتت عنوان الصبر والعطاء، تستمر في السير، تحمل قلبًا يفيض حبًا لا ينضب، وترفض أن تستسلم لظلام النسيان. تقف شامخة، لا تطلب إلا أن تُسمع صرخات المحبة التي في أعماقها، تروي قصة عشقٍ لا يُنسى، وحكاية وفاء لا تنطفئ، رغم كل ما حلّ، رغم كل ما زُرع من أشواك وجحود.
ومهما حاول الظالمون أن يطمسوا نور الحقيقة، تبقى الأرواح الصافية مرآة لا تخدع، تلمع في ظلام الجحود، وتضيء دروب المحبين الذين يعرفون أن لا سعادة تدوم إلا بصدق المشاعر، ولا حياة تُعاش إلا بوصلٍ لا ينقطع بين القلوب. فلتعلموا، يا من ظننتم أنكم أغلقتم الأبواب، أن السماء تحتفظ بحسابٍ لا يغيب، وأن لكل ظلمٍ نهاية، ولكل وعدٍ حقٌ لا يموت.
هكذا، وفي مسرح الحياة الذي لا يرحم، تظل المحبة العميقة رافعة لواء الحق، والصبر على الجحود علامة نبل لا يزيغ عنها إلا من فقد إنسانيته، ويُخفي حقده خلف أقنعة الوجاهة والميراث.
فلا تظنوا أن الوفاء قد يُدفن تحت التراب، أو أن الذكرى تُباع بثمن بخس. هي روحٌ تتنفس في قلوب من رحلوا، ونبضٌ لا يموت مهما تلاشى الزمن، وشوقٌ لا يهدأ مهما اتسعت المسافات.
وفي النهاية، تظل الرسالة واضحةً، صادقةً، حزينةً، لكنها عميقة: أن الحق لا يُوارى، وأن المحبة التي بُنيت على صدق الإخلاص لا يمكن أن تُخدع، ولا تُمحى، مهما عصفت بها رياح الجحود.