مصطفى صلاح يكتب: في صمت المختلفين.. أنين محمد سامي بين رياح الحسد وسيوف الأحكام الجاهزة

عند تخوم الأزمنة التي غابت عنها الشموس، حيث يتكاثر الصمت مثل الغبار، وحيث تُثقل الكلمات بما لا تطيقه، يقف محمد سامي، ذلك المخرج المختلف، مثل فجر يكاد يُشرق على حارة تخنقها الليالي الطويلة. ليس لأنه أراد التحدي، ولا لأنه سعى إلى إشعال فتيل معركة، بل لأنه لم يجد سوى الإبداع سلواه، وهو العطش الذي يلازم المبدع حين لا يجد الماء في قلب المدينة.
إنها مأساة من نوع خاص، أن يُكرم الإنسان في عتمة غيابه، ويُجلد في ضوء حضوره. تلك هي مأساة المختلفين، من يعبرون بخطواتهم الفذة في طرق لا يفهمها الجموع، في وقت تلتفت فيه العيون إلى من يلوح في الأفق، تخشى أن يرى الطريق غيرها. محمد سامي لم يكن سوى واحد من هؤلاء الذين دفعوا ثمن رؤيتهم، ثمنا باهظًا لا يُحتمل.
لقد تعود هذا الوطن، في جلّ أيامه، أن يُجلد المختلفين بسيوف الحسد، ويرسل إليهم سهام الأحكام الجاهزة، في زمن تحكم فيه الموازين من لم يعطوا صوتًا للحقيقة. ليست المسألة سوء أداء أو خطأً جماليًا، بل هي رغبة عميقة في كسر ذراع النور قبل أن ينير الطريق، في كبح جماح من أراد أن يكتب التاريخ بقلمه الخاص.
ومن هنا، فإن محمد سامي، الذي سار بخطى مختلفة، لم يكن إلا فريسة سهلة لألسنة الحقد، التي تتفنن في الإيذاء عبر موجات التهكم والتنمر الرقمي، كما عبر ألسنة بعض الناقدين الذين يختزلون الفن في وصفات مسبقة لا تتسع للمتجدد ولا تقبل المختلف.
لكننا هنا لا نتحدث عن شخص، بل عن حالة، عن نمط متكرر في تاريخ المبدعين في مصر والعالم العربي، حالة رثائية لكتّاب وفنانين وعباقرة، عانوا من الظلم والتهميش والنبذ، ثم تربعوا على عرش الخلود بعد أن أطبق عليهم الظلام.
هل ننسى نجيب محفوظ، ذلك العملاق الذي حمل في صدره هموم الوطن والإنسان، والذي طالته سهام الجهلاء والجهلة، فاتهموه بالتحريض على الفساد، واعتبروا كتاباته خطراً على القيم، حتى منعت بعض مؤلفاته لفترة طويلة، ثم صار بعد رحيله أيقونة ثقافية عالمية؟
وهل نغفل يوسف إدريس، الذي رفض أن يبيع فنه للسلطة، فقال "لا" في زمن "نعم"، فوجد نفسه محاصراً، ممنوعاً من النشر، لكن كلماته ظلت صوت الضمير لا ينطفئ؟
وجمال حمدان، صاحب "شخصية مصر"، الذي أغلقوا في وجهه أبواب المؤسسات، واحتقروا رؤيته التي كانت ترى الوطن من أفق مختلف، ثم صار في ما بعد مرجعًا للخرائط والحضارات التي تشكل الوعي المصري الحديث؟
وصلاح عبد الصبور، شاعر المدينة والمقاومة، الذي كتب شعراً لاذعاً لا يروق للسلطة، فاعتُقل وحُكم عليه بالمنع من النشر، لكنه استمر في كتابة حروفه المتمردة، وكان الصوت الذي يدوي في أزقة الأمل والحرية؟
وعبد الحليم حافظ، الذي لم ينج من السخرية بسبب صوته، ثم صار رمزًا للحنون والوجدان الشعبي؟
ويوسف شاهين، المخرج الذي وصفوه بالمجنون، فكان هو رائد الكاميرا التي رسمت وجوه الحقيقة المصرية بكل وجوهها، ولم يرضَ أن يكون نسخة من أحد؟
وعمار الشريعي، ذلك الموسيقار الأعمى، الذي لم يرَ بأعينه إلا أنه سمع بروحه، فابتكر ألحانًا لا تُنسى وأسس لموسيقى مصرية خالدة؟
ورضوى عاشور، التي تحملت السياسة وقسوتها، وأقصيت من ميادين النشر والتعبير، لكنها ظلت رمزًا للكتابة المقاومة التي تصرخ باسم الحرية والكرامة؟
وأنسي الحاج، الشاعر الذي كان نشازًا في زمن التنميط، لكنه أصبح من أعمدة الحداثة في الشعر العربي، وقد استعاد له الزمن مكانته التي يستحقها؟
وغيرهم من المبدعين الذين لم يسلموا من لسان الجحود وظلم القريب والبعيد، ممن كانوا يطاردونهم ويشوهون صورهم، لكن التاريخ لم ينسهم، بل نحت أسماءهم في جدار الزمن.
وهنا، تتكرر مأساة محمد سامي. هو الذي اختار أن يختصر مشهدًا، أن يرسم حوارًا، أن يصنع صورةً تحمل في طياتها ثورة على النمطية، رفض أن يلتزم بقالب أو وصفة مكررة، فوقع في دائرة الاتهام والشتائم، رغم أن الجمهور يرى في أعماله روحًا متجددة، وشغفًا حقيقيًا بالفن.
من قال إن الإبداع لا يحتمل التغيير؟ ومن الذي قرر أن تكون القوالب جامدة، لا تقبل التعديل ولا التبديل؟ هل أغلقت بوابات الفن على من يريد أن يدخل منها من باب آخر؟ وهل صار النقد مجرد سيف يُسلَّط على ظهور المبدعين دون رحمة؟
في زمننا هذا، صارت سهام الحسد تتطاير في فضاءات التواصل، حيث يصير التشهير سهلاً، ويصبح الحكم جاهزًا في ثوانٍ. كم من مبدع بُتر جناحه قبل أن يحلق؟ وكم من صديق وأخ خان في حانة الكلام السريع؟
لكن المختلفين هم نور الحكاية، هم مَن يعيدون صياغة الروح في زمن تكرار النمط، هم الذين يحفرون في صخور الجمود ليزرعوا بذور التجديد.
وبين هذه السطور، نقف لنقول لمحمد سامي: لا تلتفت. لا تسمح للرياح أن تعصف بروحك، فأنت تمشي في درب المبدعين الكبار، درب ليس سهلاً، لكنه الأجمل.
نقول لكل من أصدر حكمًا على مبدع، أن ينظر إلى التاريخ، إلى الذين دفنهم الظلم في حياتهم، ورفعهم الناس إلى السماوات بعد رحيلهم. إنك لا تحكم على المستقبل حين ترفض المختلف اليوم.
وفي هذه الرسالة، دعوة لكل القلوب الرحيمة التي تؤمن بأن الفن هو سفينة النجاة، أن تدافع عن صوت جديد، عن رؤية مختلفة، لا تكتفي برؤية ما هو مألوف فقط.
إن الفن الحقيقي لا يموت، بل يولد من رحم الخلاف، ومن جذور التحدي.
فلنرفع معًا صوت إنصاف محمد سامي، ولنعترف بأن الظلم لا يُغتفر مهما طال الزمن، وأن المبدعين هم أغلى ما لدينا، فهم الذين يضيئون لنا دروبنا، حين تعتيم الليالي.