الكاتب والشاعر محمد الشربيني يكتب: السيْرُ على الجَمْرِ..!!

أبريل 29, 2025 - 15:27
الكاتب والشاعر محمد الشربيني يكتب: السيْرُ على الجَمْرِ..!!

لأنْ نكتب عن الأم الفلسطينية حال الاحتفال بـ"عيد الأم"فذاك أمرٌ "بديهي"أو"بدهي"لاختلاف الكثير من المراجع في إثبات"الياء"أو حذفها في النسب إلى"بديهة"إلا أن "مَجْمَع اللغة العربية" عضَّد إثبات"الياء"،لكن أن نكتب عن الأم الفلسطينية،ونحن في أجواء احتفالات العالم بـ"عيد العمال"فذلك المثيرُ للدهشة..لماذا؟!!لأننا حال تتبُّعنا كفاحَ الشعب الفلسطيني قبل النكبة وبعدها نجد تلك الأم..لم تكن أُمّاً بالمعنى التقليدي للأمومة-من حَمْلٍ وإرضاعٍ ورعايةٍ للأبناء والزوج- وهذا في الواقع ليس أمراً هيِّناً؛لكننا نجدها حاضرةً وبقوة-طيلةَ هذه المواجهات شِبْه اليومية- يدُها بيد الرجل،تعينه في مهنته اليدوية راضيةً، وفي مضمار المسئولية نجد كَتِفَها محاذياً كتفَه ضاربةً المثالَ النادرَ في إنكار الذات؛بل تزيد عنه كونها مدرسةً لاحتضان وتنشئة جيل المقاومة، أجل..إنها العظيمة في كل المواقع؛ولن نجد حكايةً لشهيدٍ أو قصةً لأسيرٍ إلا ونجد ظلّاً لأمٍّ تقف في الخلف ضاربةً المثال الأكمل لمعنى الصبر والصمود؛فهي الأسيرةُ ابنةُ الأسير أختُ الأسير زوجةُ الأسير أمُّ الأسير، والشهيدةُ ابنةُ الشهيد أختُ الشهيد زوجةُ الشهيد أمُّ الشهيد،وقبل كل ذلك وبعده..!!تتحمل مشاق تربية الأولاد حال اعتقال زوجها أو ارتقائه شهيدا..أرأيتم أُمّاً في كل بقاع الأرض واجهت الإبعاد والاعتقال مع أطفالها، ووضعتْ حَمْلَها داخل المعتقل..!!

(لكِ الجماهيرُ أبناءٌ بلا عددِ/فلستِ وحدَكِ يا أمّاً بلا ولدِ)(إن يغلقوا بيتنا الدامي فقد فتحوا/لنا الزنازين بيتاً شامخَ الزَرَدِ)(من خلف قضبانه نرمي الدماء على/مكبِّلينا رَصاصاً من فَمٍ ويَدِ)(إنا جعلنا“طوابيه”منابرَنا/ وفي“العنابر”حيث اصطفَّ جيشُ غَدِ)(قد أقسمتْ هذه الأيدي وما كذبتْ/ بالشعب لم تنحرف عنه ولم تَحِدِ)(بأنْ سَترشَحُ في أغلالنا لهباً/ حتى تحرِّرنا من عَيْشِنا النكدِ)

وتفتح قصيدة"الأم" للشاعر العربي"معين بسيسو"نافذةً باتساع الأفق كاشفةً صوراً من كفاح الأم الفلسطينية، وتشدُّ على يديها في مواجهة إجرام المحتل، و"معين بسيسو" ابن حيِّ "الشجاعية"الشعبي والذي تنتمي له أغلبُ عائلات "غزة"و"بسيسو" سليلُ عائلةٍ تهتم بالعلم ثقافةً وأكاديمياً؛فعاش حياةً عريضةً زاخرةً بحلوها ومرِّها،ليأتي التحاقه بـ"الجامعة الأميركية" في"القاهرة" بين عامي48 و52 فيضعه في قلب الحياة الثقافية والسياسية المصرية التي كانت صاخبةً حافلةً بالتطورات الكبرى،وتواكب قصائدُ مجموعته الشعرية الأولى"المعركة"الصادرة في"القاهرة"عام52 غليان المجتمع المصري آنذاك ضد الوجود البريطاني في 'مصر" وعمليات الفدائيين في"قناة السويس"؛لقد عايش"بسيسو" أولى أعوام النكبة،وازدحمتْ "غزة"بمئات الآلاف من اللاجئين في مخيماتها حيث سيعمل بعد ذلك معلماً ومديراً في بعض مدارسها فيتفاعل بشكلٍ يوميٍّ مع مأساة تلاميذها الصغار،فيصير ابنَ نكبة "فلسطين"والناطقَ الشعري بآلامها،وحُلْكةِ حياة مكابديها:

(مِنْ عَيْشِك المرِّ، يا أمي وهل سنةٌ/تمرُّ مِن غير أن نُنْفَى من البلد)(مُن غير أن ينقعوا في القيد كلَّ فمٍ/أَبَى يساوم في حقٍّ ومُعتقَد)(مشى الطريقَ ولم يرهبْ وعورتَها/وليس غير أيادي الشعب من سند)(أمامه كلُّ من لم يُلْقِ رايتَه/وخلفه كلُّ منهارٍ ومرتعِدِ)(هو الكفاحُ فَخُطِّي يا مَطَارقَه/بقيدِ مضطهِدٍ تاريخَ مضطهَد)(إن يمنعوا نَشْرَه فلْتطبيعه على/نور الدماء وفي حقْدٍ وفي جَلَدِ)(وعند أسماء مَن عاشوا الكفاح وَهمْ/مطارَدون بلا أسماء فاتئدي)(وقَبِّلي أحرفاً قد رسَّختْ قدَماً/ للشعب كالجذر..كالشريان في الجسد)(خَطَّتْ تقاليدَ شعبٍ عاش مُجرِمُه/رغم المشانق والإرهاب في سُهْد)(محاصَرٌ بالدم المسفوح قد زحفتْ/سيولُه فتطلع ليس من مددِ/هي الحقيقةُ يا أماه تدفئنا/بغيرها القلب لم يَدْفَأ ويتقدِ)(لن يَخدعَ الشعبَ مَنْ لو فُتِّشتْ يدُه/سوى مفاتيحِ سِجْنِ الشعب لم تجدِ!!)

 إن الأم الفلسطينية حال قبولها الاقترانَ بفدائيٍّ تدرك مخاطرَ العيْش مع زوجٍ مُطارَدٍ من الاحتلال، وتعرف مصيره؛إذ لا يتجاوز أمْريْن:إما الاعتقال أو الشهادة؛ولذلك فهي مثله تتعرض للاعتقال لكنها لا تأبه بالعواقب،بل لا تُقصِّر في إعداد أولادها،وتقدِّم لهم السلوك القويم،وتسعى لتوفير ما يُعين على إلحاقهم بمراحل التعليم، وتزويجهم وبناء أُسَرِهم، غير آبهةٍ باعتقالاتهم المتكررة،بل لا نكون مبالغين إذا قلنا أنها تؤدي دور الراعي لأسرهم أيضا،ورغم عاطفتها الجيَّاشة تجاه أبنائها ما كانت لتعارض أيّاً منهم إذا اختاروا طريق الجهاد، وكأن شعارَها"الموتُ قَدَرٌ محتومٌ..ولكلِّ إنسان الحقُّ في اختيار طريقه إليه" لكنها في ذات الوقت تحسن تربيتهم كأنهم مخلَّدون أبدا..!! وكأنِّي بها هذه الجوهرة النادرة؛حياتُها تحدَّدتْ ما بين زغرودتين؛فهي تستقبل أسيرها-ابناً كان أو زوجاً- بزغرودةٍ،وتودِّع شهيدها- أيّاً كانت قرابتُه-بزغرودةٍ أيضا!!

ورغم أن"بسيسو"تاريخيا وفنياً من أوائل شعراء الحداثة الفلسطينين الذين انحازوا لقصيدة التفعيلة، ولعل عمله معلِّما في 'العراق"مطلع الستينات ومشاركته شعراءَها حياتَهم الثقافية والسياسية كان له بالغ الأثر في وجهته الواقعية بإطارها التفعيلي،وهو الذي بدأ شاعرا كلاسيكيا ملتزما بحور الشعر العربي كما يبين في هذه القصيدة حيث نرى قصيدة تعطي درساً في الكلاسيكية الحقيقية، وتستولي على متلقيها بهذا الاعتداد الذي يفور من وسط مفرداتها، ودقات طبول الحرب المنبعثة من إيقاعها الزاخر حيث بحر"البسيط"بإيقاع موسيقاه وقافية"الدال" رغم الكسر العروضي في (سيوله فتطلع ليس من مدد) وبحثي المتواصل للتأكد من ورود الشطر هكذا..أقول إن القصيدة بموسيقاها وقافيتها كأنها الطلْقةُ تُضفي الكثير من الإصرار رغم الألم الناضح من معاناةٍ تنوء بها الجبال الرواسي!!لتصبح القصيدة منبراً جهيرَ القرار باعثاً روحَ الرضا بمآل الكفاح في سبيل تحرير الأرض وثمنه الفادح..فإلى ختام قصيدة "الأم"...و"معين بسيسو":

(أماه إن عاد أبطال الكفاح على/موج الكفاح الذي يعلو ولم نَعُدِ)(ويسأل الشارع الولهان:أين مضوا/ ما بين مُخْتَطَفٍ ليلاً ومُفْتقَد)(أماه مهما احتواني القيدُ منفرداً/ فإنني بنضالي غيرُ منفرِد)(إن كان قلبيَ خفّاقاً إلى أمدٍ/قلبُ الجماهير خفاقا بلا أمد)(براية الشعب يكسوك الرفاق إذا/عَرَيْتِ فامشي بثوب بالدماء ندي)(وإن يعضُّكِ نابُ الجوع مفترِسا/فقد عجنَّا رغيفاً من ضياء غَدِ)(مَنْ لم تودع بنيها بابتسامتها/إلى الزنازين لم تَحْبَلْ ولم تلدِ!!)