السفير د.عادل عيد يوسف يكتب: عندما يصبح اشعال الحروب أسهل وسيلة للبقاء

في لحظات التحوّلات الكبرى، حينما تتهاوى استراتيجيات الدول تحت وطأة الفشل، ويضيق الأفق السياسي أمام الزعماء، يلوذ بعضهم بالهروب إلى الأمام. وهذه المرة، لا يتجلى ذلك في خطة تنموية أو مبادرة سلام، بل في دماء تُسفك على قارعة الاغتيال السياسي. نحن أمام مشهد تتكرر فيه التراجيديا التاريخية ذاتها: تصفية رموز المقاومة، على أمل تصفية الروح... وكأن منطق الدول قد تحوّل إلى منطق القتلة.
فإسرائيل، بقيادة بنيامين نتنياهو، تعود إلى نهج طالما مارسته المخابرات الإسرائيلية منذ عقود: اغتيال الأفراد بدعوى كسر البنية، ظنًا منها أن إزاحة الرأس كفيلة بإسقاط الجسد. فإسماعيل هنية، الذي اغتيل في طهران بصاروخ نوعي في صيف 2024، لم يكن سوى أحد الوجوه، وليس كل الحكاية. وقبله، يحيى السنوار، الذي تحوّل من قائد ميداني إلى رمز نضالي، تمّت تصفيته في غزة خلال خريف 2024، دون أن يتوقف نَفَس المقاومة أو تُخمد روح حماس.
لكن السؤال الأكبر ليس عن الأهداف، بل عن المغزى. ماذا يربح نتنياهو من كل هذا الدم؟ الإجابة، في عمقها، ليست أمنية بل شخصية.
حين نُقّب خلف مسار نتنياهو منذ السابع من أكتوبر، نجد زعيمًا فقد السيطرة على المشهد، وبدلًا من مواجهة لجنة التحقيق التي تنتظره بتهم الإهمال، وسوء التقدير، والانهيار الأمني الأكبر في تاريخ إسرائيل، اختار أن يفتح جبهات متتالية: من غزة إلى لبنان، ومن هناك إلى سوريا، وصولًا إلى قلب طهران.
هو يدرك جيدا أن إعلان نهاية الحرب يعني بداية المحاكمة. تمامًا كما حدث مع إيهود أولمرت عام 2006، حين انتهت حرب لبنان الثانية إلى لجنة تحقيق رسمية أدانته سياسيًا، وفتحت أمامه الطريق إلى السجن بتهم لاحقة. نتنياهو يعرف أن الملفات تنتظره، في الشارع، وفي القضاء، وفي ذاكرة شعب لم يعد يُلدغ من جُحر القيادة مرّتين.
ولأن الأوهام لا تحمي الدول، جاءت الضربة الإيرانية في ربيع 2025 لتسحب الغطاء عن أعظم بروباغندا عسكرية إسرائيلية: القبة الحديدية. حين انطلقت عشرات الصواريخ الدقيقة من عمق الأراضي الإيرانية، استهدفت مطارات عسكرية في النقب، لم تفلح القبة سوى في اعتراض بعضها، وسقط ما سقط من الأهداف قي قلب العاصمة تل آبيب و حيفا التي تعج بالتكتلات البشرية بصواريخ فتاح بسرعة تفوق سرعة الصوت ١٨ مرة، فارتبك الداخل، وخرج كثيرون من وهم "الدرع الذي لا يُخترق".
هنا، تذكّر العالم مجددًا دروس التاريخ: كما كان هتلر يتحدث عن "سلاحه السري" الذي لم يظهر قط، كانت إسرائيل تبني على تكنولوجيا لم تُختبر و أنما هي البروباجندا ، حتى جاء الرد الإيراني ليكشف هشاشة الصندوق الحديدي، ويضعها أمام أول حرب تُخاض فوق أراضيها منذ تاسيسها ١٩٤٨ .
اللحظة التي أخافت نتنياهو لم تكن حين انطلقت الصواريخ الإيرانية، بل حين اقترب الاتفاق النووي من لحظة التوقيع. فالإدارة الأميركية في عهد أوباما، عبر وزير الخارجية جون كيري، وقعت الاتفاق التاريخي مع إيران في 2015، في خطوة عارضتها إسرائيل بشدة رغم أنها كانت تتضمن آليات رقابة نووية وضمانات لأمن إسرائيل. لم يكن نتنياهو يملك أدوات لإفشاله، حتى جاء دونالد ترامب، وأنهى الاتفاق في 2018 ضمن حربه على كل ما يرمز لعهد أوباما.
لكن الزمن دار. أوروبا وروسيا لم يخرجا من الاتفاق، والآن – في ظل ولاية ترامب الثانية – اقتربت المفاوضات من خواتيمها، وسط تسريبات بأن الاتفاق سيُعلن خلال شهور، مما سيُعيد إيران إلى المجتمع الدولي، ويخفف عنها العقوبات، ويجعلها شريكًا مقبولًا في بعض الملفات. كل ذلك كان بمثابة كابوس سياسي لنتنياهو، يُفقده المبرر الدائم للحرب، ويهدد شرعيته أمام اليمين المتشدد.
التحول الأخطر لم يكن في طهران، بل في واشنطن حيث أصبحت كل سياسات المنطقة يتم تحديدها وفقا لما يتطلع اليه نتنياهو وضاربا عرض الحائط بالاستقرار الإقليمي و النداءات الدبلوماسية و القانون الدولي.
ترامب الذي تحدث كامبراطور العصور الوسطي طالبا "استسلام غير المشروط"، يتحدث عن جعل "ايران عظيمة ثانيا " في إشارة واضحة الي احتمال زيادة التدخل لا لأي مصلحة أمريكية انما ارضاء لحليفه في المنطقة ،
حقيقة الأمر، أن إسرائيل اليوم ليست في مواجهة حماس أو إيران أو حزب الله. إنها في مواجهة مرآتها. فحين تختزل الدولة في شخص، وتُدار بالأحقاد لا بالمصالح، تتحوّل من قوة إقليمية إلى كيان يبحث عن ذاته في ظلال الخوف.
نتنياهو لا يهرب فقط من المحاكمة، بل من التاريخ. يفتح الجبهات لا لينتصر، بل ليؤجل النهاية. يستخدم دماء الخصوم ليكتب بها مذكرة دفاع عن بقائه السياسي. لكن هذه لعبة خطيرة. فالحرب ليست مباراة نشجع فيها فريقًا وننتظر من ينتصر... إنها فاجعة. والضحية فيها، دومًا، الإنسان.
وإذا كان ثمة أمل، فهو في أن تعود المنطقة إلى العقل. أن يُعاد الاعتبار للسياسة والحلول البلوماسية، و ليس الاغتيال. للسلام و ليس القنص. فالدول لا تموت بموت رجالها، والأفكار لا تُدفن في القبور... بل تولد من جديد، كلما سقط شهيد.