مصطفى صلاح يكتب: اللواء محمد أبو الحسن.. رجل من سلالة الوطن

في بلادٍ طغى عليها الصخب، وكثرت فيها الوجوه العابرة، يخرج من قلب الغبار اسم لا يشبه سواه، لا يحتاج إلى ضجيج كي يُعرَف، ولا إلى تصفيق كي يُوقَّر. محمد أحمد أبو الحسن علي، أحد أولئك الرجال الذين تشعر حين تراهم بأن الوطن لا يزال بخير، وأن معنى "القيادة" لم يُفرَّغ بعد من دلالته النبيلة.
منذ أن خرج إلى الدنيا في الثالث عشر من ديسمبر لعام 1968، كان الوطن على موعد مع رجلٍ لا يصنع المجد بالكلام، بل يتركه يسير خلفه في صمت. وُلد في القاهرة، لكنه تشرب من نيلها، ودرسها، وشوارعها، ما جعله يعرفها كما تعرف الأم وجه ابنها. لم تكن طفولته رخوة، بل نُحتت كما تُنحت التماثيل: صبر، وصمت، وإرادة. فالتحق بـ الكلية الحربية، حيث تُصنع المعادن، وتُختبر النفوس. وتخرج منها عام 1990، حاملاً بكالوريوس العلوم العسكرية، وحاملًا معه وعدًا لا يُقال، لكنه يُنفَّذ: أن يكون الوطن أولاً، وأخيرًا.
بدأت رحلته في الميدان، لا يطلب رتبة، بل يحملها، ولا يزهو بها، بل يرهقها بالمسؤولية. في جهاز المخابرات الحربية، حيث لا مجال للخطأ، قاد مكتب أمين جهاز الرياضة العسكرية، ثم تولّى بعد أعوام رئاسة محور التخطيط بهيئة التنظيم والإدارة بالقوات المسلحة. وفي كل موقع، ترك شيئًا منه، وترك شيئًا له: النظام، الإتقان، العدل الصارم، والحكمة الهادئة.
لم يتوقف عن التعلّم. خاض دورات المخابرات الحربية من أولها حتى أرقاها، ومرّ بـ دورات إعداد القادة، وأساليب التعليم الحربي، والتأهيل المالي والإداري، وكأنه يُهيئ نفسه لمعركة طويلة لا تعرف الهدنة. لم يكن يتعلم ليزهو، بل ليتقن أكثر، ويخدم أفضل.
وحين خرج من الميدان العسكري إلى ساحة الإدارة المدنية، لم يخلع روحه، بل ارتدى فوقها بدلة المسؤول المدني، بنفس العقل، بنفس الضمير، بنفس القسم. فكان رئيسًا لمركز العياط، ثم رئيسًا لمركز الزرقا بمحافظة دمياط، والآن، هو رئيس حي دار السلام بمحافظة القاهرة.
في دار السلام، لا ينام الرجل. يعرف أن العاصمة قلب الوطن، وأن كل نبضة فيها تترك أثرًا في باقي الجسد. فتجده حاضرًا ليلًا ونهارًا، لا يجلس خلف مكتب بارد، بل ينزل الشارع، يراقب، يُصلح، يستمع، ويأمر. ليس لأنه يحب الظهور، بل لأنه يؤمن أن المسؤولية لا تُمارس من الأعلى، بل تُعاش في الأرض، بين الناس.
كل من عمل معه، أو شاهده عن قُرب، يعلم أنه لا يؤمن بأنصاف الحلول، ولا يُجيد فن التزيين، بل يسعى إلى الجوهر، إلى الإصلاح الحقيقي، إلى أن يعيش المواطن كرامته دون وساطة. يعمل كما يعمل الجندي في الميدان: لا يطلب شيئًا إلا الإتقان، ولا يرضى بأقل منه.
وإذا أردت أن تعرف الرجل حقًا، فاقرأه في سلوكه، لا في أقواله. ستجده يتقدّم فريقه لا خلفهم، يمشي في الأزقة كما في القاعات، يوقّع بصرامة، ويُنصت بتواضع. لا يُحب أن يُشكر، ولا يبتسم لمجرد الرضا الزائف. إنه من طراز قديم، نادر، من أولئك الذين يعتقدون أن الشرف مسؤولية تُحمَل، لا ميدالية تُعلَّق.
ووراء هذا كله، وطنٌ يعيش فيه ويعيش به. لا يذكره في خطابٍ، بل يحمله في قلبه. في لحظة القرار، في لحظة الغضب، في لحظة المواجهة، تجد مصر قبالته: مصر التي علّمته، ووهبته، وانتظرته.
هو لا يقول "أنا ابن مصر"، لكنه يُثبتها في كل تصرّف، وفي كل لحظة نزاهة. هذه مصر التي في خاطره: الوطن بمعناه النبيل، لا بشعاراته، ولا بادعاء حبه.
إننا اليوم لا نكتب عن منصب، ولا نُمجّد شخصًا لأنه جلس على كرسي، بل نكتب لأن في هذا الرجل قيمة يُخشى عليها أن تندثر. في زمن انكسرت فيه المعايير، وارتفعت فيه الأقنعة، يظل اللواء محمد أحمد أبو الحسن شامخًا، كجبلٍ لا يصرخ، لكنه حاضر في الأفق، هو واحد من حراس المعنى في هذا الوطن.
واحد من الذين ما زالوا يؤمنون أن مصر لا تُبنى بالخطب، بل بالأيدي النزيهة، والعقول الهادئة، والقلوب النظيفة. هو من الذين يتركون أثرًا دون أن يطلبوا عرفانًا، ويصنعون الفرق دون أن يُعلنوا عن أنفسهم.
فسلام عليه، ما بقي في القلب إخلاص، وفي العمل تفانٍ، وفي الوطن رجال لا يتبدّلون.