السفير د. عادل عيد يوسف يكتب: التحالفات الصلبة والتحالفات السائلة.. رسالة القاهرة من موسكو

في عالم تتداخل فيه الإشارات وتتصارع فيه النوايا، لم تكن مشاركة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في احتفالات النصر في موسكو مجرد مشهد بروتوكولي يُضاف إلى سجلات العلاقات الثنائية، بل كانت حدثًا ناطقًا بلغة لا تُترجم بالكلمات. حين تسير القوات المصرية بخطى واثقة في قلب الساحة الحمراء، تحت أعين القادة المتحفزين لمعادلة القرن الجديد، فهي لا تستعرض حضورًا، بل تؤكد موقعًا، وتوقظ ذاكرة الجغرافيا في لحظة تُختزل فيها التحالفات إلى مربعات مصالح متقلبة.
روسيا اليوم لا تغير جلدها، بل تعمق جذورها. هي لم تتخلّ قط عن عقيدتها في بناء التحالفات على أساس الصلابة لا السيولة، على ثبات المواقع لا مرونة الشروط. ما تُقدّمه موسكو لشركائها ليس مشروعات عابرة أو برامج مساعدة، بل منظومة من الشراكة المُلزمة ذات المدى الطويل، مبنية على الأمن، الردع، والاحترام المتبادل. ولهذا، لا تُخفي رغبتها في أن تكون مصر جزءًا فاعلًا في هذا الامتداد الجديد، لا على الهامش، بل في المقدمة، باعتبارها صاحبة جيش يُحسب له وزنه، وموقع لا تتجاهله الخرائط.
في المقابل، تتحرك الولايات المتحدة بمنطق مغاير تمامًا. تحالفاتها اليوم أشبه بالسوائل: تملأ الفراغات، وتتشكل حسب الوعاء، لكنها لا تصمد حين ترتفع درجات التوتر. تسعى واشنطن إلى تكتلات اقتصادية توظفها سياسيًا، لا ترتكز إلى عقود التفاهم الاستراتيجي، بل تُبنى على منطق الاستبدال السريع: من لم يتماشَ مع رؤيتها، يُقصى من الطاولة، ومن لم يُطبّق شروطها، يُعرض عليه الانسحاب بهدوء أو يُدفع إليه ضمنيًا حتي ان كانت الأم العجوز بريطانيا او الجارة كندا.
الخليج بالنسبة لواشنطن ليس حليفًا ، بل صندوقًا ماليًا يجب أن يبقى مغلقًا على النفوذ الأمريكي وحده، تحت شعار و هو يتطلع الي صفقات " تريلونية" و بلا مقابل تقريبا غير رضاه .و زيارت ترامب المتوقعة ليست فقط صفقات اقتصادية انما تحمل الكثير من الصفقات السياسية أيضا لإحياء صفقة القرن بقراره النهائي التي لن تخلوا كعادته من المفاجأت والاقتراحات التي تعني بأي شي غير الاعتراف "بدولة فلسطين" او حتي الإشارة من بعيد.
وسط هذا المشهد، تبدو القاهرة كقوة تعرف متى تتكلم، ومتى تترك للرمزية أن تؤدي مهمتها. فهي لا تندفع، ولا تتأخر، لكنها تضع خطواتها على الأرض بثبات من يفهم أن لعبة المحاور ليست فقط فيمن يتحرك، بل فيمن يستطيع أن يظل ثابتًا دون أن يُستهلك. المشاركة المصرية في عيد النصر لم تكن انحيازًا، بل رسالة سياسية تقول ضمنًا: مصر ليست طرفًا يمكن تجاوزه في رسم توازنات المنطقة، بل هي مركز يُحسب له ألف حساب.
ثم تأتي الإشارة الأوضح، والأكثر فاعلية، في توقيت لا يقل دقة: تنفيذ تدريبات عسكرية مشتركة مع الصين. خطوة استراتيجية لا تُقرأ فقط في بعدها الفني، بل بما تحمله من دلالات عميقة. فهي تكشف أن مصر لا تُراهن فقط على محور موسكو-بكين بوصفه تكتلًا يُوازن الهيمنة الغربية، بل تؤكد أنها قادرة على نسج خيوط تمكين مزدوجة: شراكة استراتيجية مع روسيا، ومشاركة عسكرية مع الصين. وهذا التوازن هو ما يجعل مصر لاعبًا غير قابل للاستبدال، في منطقة تحكمها التبدلات المتسارعة.
بينما تنشغل القاهرة بإرسال إشاراتها المُتقنة عبر الشرق، يستعد دونالد ترامب للعودة إلى الخليج، محاولًا إنعاش مشروعه المؤجل الذي طالما أراد تمريره تحت مسمى “صفقة القرن”. ورغم تبدّل الشعارات، يظل الهدف ثابتًا: تحويل التكتلات العربية إلى منصات دعم للمصالح الأمريكية، سواء عبر احتواء النفوذ الإيراني، أو حصار الزحف الصيني. لكن ما يُحاول ترامب تجاهله، أن الشرق الأوسط الذي حاول بث الخلاف بينه في ٢٠١٦ تعلم التجربة و الصين الذي حاول معاقبتها في نفس الفترة ب ١٠٪ تعريفة جمركية تصمد الان في مزاد ١٤٠ ٪ تعريفة جمركية.
اليوم، يعيد ترامب ذات التكتيك، لكن القاهرة ليست في موقف انتظار. لقد وضعت نفسها حيث لا يُملى عليها، بل حيث تُشارك في صناعة التوازن. وهي تُدرك أن كل تحالف لا يُبنى على الإدراك المتبادل للمصالح، محكوم عليه بالذبول، وأن الاصطفاف خلف القوة الاقتصادية وحدها، دون شبكة أمان استراتيجية، هو رهان على مؤقت لا يدوم.
مصر لا تنزلق إلى لعبة المحاور، ولا تُغلق على نفسها أبواب الانحياز. هي تفكك المشهد قطعة قطعة، وتختار أن تكون الحاضر الغائب الذي حين يتكلم تُعاد الحسابات. في عالم تُعاد صياغته بالتكتلات، تُثبت القاهرة أن قوتها ليست فقط في موقعها، بل في قدرتها على البقاء مركزًا للثقة في زمن لا يُنتج إلا التبعية.
إنها الرسالة التي كُتبت في موسكو، وصدحت في سماء بكين، ولن يكون ممكنًا لترامب أن يتجاهلها حين يحطّ في الخليج… لأن الشرق الأوسط بلا القاهرة، لا يُعاد تشكيله، بل يضل طريقه.