السفير د. عادل عيد يوسف يكتب: موت الدبلوماسية في البيت الأبيض

في العقود الماضية، كانت السياسة الدولية تدار عبر الدبلوماسية الهادئة والاجتماعات المغلقة، حيث تبحث الأزمات و تصاغ الاتفاقيات بعيدًا عن ضغوط الرأي العام والإعلام. إلا أن ما نشهده اليوم هو تحول الدبلوماسية إلى ساحة مواجهة إعلامية، حيث يستخدم الضغط الإعلامي كسلاح لفرض المواقف، ويتم التلاعب بالمعلومات والأرقام لتحقيق مكاسب سياسية.
المشهد الأخير بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض جسد هذا التغيير بوضوح. كان اللقاء مقررا لمناقشة اتفاق اقتصادي وخطوات تهدئة مع روسيا، لكنه سرعان ما تحول إلى مواجهة علنية، حيث اتهم ترامب زيلينسكي بالمغامرة بحرب عالمية ثالثة، قبل أن يقرر إلغاء المؤتمر الصحفي و يُنهي الاجتماع بشكل مفاجئ، ليترك خلفه حالة من الفوضى الدبلوماسية والتضليل الإعلامي.
لم يكن فشل الاجتماع هو الأمر المثير للجدل، بل الطريقة التي استخدمت بها وسائل الإعلام كأداة ضغط. من اللحظة الأولى، بدأت التسريبات تتدفق، وتضاربت الأرقام والمعلومات، مما خلق صورة مشوهة عن حقيقة ما جرى خلف الأبواب المغلقة. لم تعد الدبلوماسية التقليدية قائمة على المفاوضات الهادئة، بل أصبحت معركة إعلامية تحسم عبر العناوين العريضة والتلاعب بالرأي العام.
في ظل هذه الأجواء، نتذكر قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي بعدم زيارة البيت الأبيض لمناقشة ملف اللاجئين الفلسطينيين ليثبت بعد رؤيته لتفادي هذا الفخ الدبلوماسي و الإعلامي في الوقت الذي تحول فيه البيت الأبيض إلى ساحة للمناورات الإعلامية، فإن أي لقاء هناك لن يكون حوارا سياسياً حقيقيا"، بل مجرد فرصة جديدة لاستخدام التصريحات والمواقف في لعبة الضغط الإعلامي.
الدبلوماسية وجدت لتكون أداة لحل النزاعات وتوفير مساحة للحوار بعيدًا عن العواطف والتأثيرات الخارجية، و مراعاة العلاقات الطويلة الأمد بين الشعوب و ليس فقط الرؤساء و لكن ما يجري اليوم داخل البيت الأبيض يعكس سياسة مختلفة تمامًا. أصبح الإعلام هو الوسيلة الأساسية لصناعة القرارات، والضغط الجماهيري هو المحرك الرئيسي للمواقف، مما أفقد القادة القدرة على إدارة الأزمات بمرونة وهدوء. في السابق، كانت الدول الكبرى تدير مفاوضاتها بعيدًا عن الكاميرات، أما اليوم، فإن كل كلمة تقال تتحول إلى عنوان رئيسي خلال دقائق، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي ويحد من إمكانية الوصول إلى حلول حقيقية.
إذا استمر هذا النهج، فإن السياسة الدولية ستتحول إلى ساحة مزايدات إعلامية بدلاً من أن تكون فضاء لصنع القرارات الرشيدة. عندما تستبدل الدبلوماسية بالضغط الإعلامي، يصبح البديل الوحيد هو المزيد من الأزمات والصراعات التي لا تنتهي. المشكلة ليست فقط في شخصيات مثل ترامب أو زيلينسكي، بل في منظومة جديدة يتم تشكيلها، حيث يتم استخدام الإعلام كأداة للابتزاز السياسي بدلا من أن يكون وسيلة لنقل الحقيقة. وإذا لم يتم تدارك الأمر، فإن العالم سيدفع ثمن انهيار الدبلوماسية، و سنشهد مزيداً من الأزمات التي تحكمها وسائل الإعلام بدلاً من القنوات السياسية الحقيقية.