مصطفى صلاح يكتب: خليكوا شاهدين على حبايبنا.. درية أحمد التي غابت عن شاشة الوطن

خليكوا شاهدين على حبايبنا...
شاهدين على زمن كانت فيه الكاميرا مرآة لا تشوّه الوجوه، ولا تُقصي الأرواح عن شاشتها، زمنٍ كانت فيه الصور تُلتقط بالحبّ، وتُذاع بالاحترام، وتُحفظ في القلوب قبل الأرشيف. زمن كانت فيه الشاشة بيتًا دافئًا، لا تُغلق بابه في وجه من صنعوا وهجها الأول، زمن لا يُقصي الأمهات الحقيقيات من ذاكرته، ولا يُصيبهم بوصمة النسيان.
في ذلك الزمن، لم تكن الكاميرا ملكًا للمال أو لأهواء السوق، بل كانت ملكًا للمصريين جميعًا، وكان الفنان يُحتفى به لأنه صوت الناس، لا لأنه "ترند" اللحظة.
واليوم، حين نقول: خليكوا شاهدين، لا ننشد الحنين بقدر ما نستنجد بالوفاء، لا نستدعي الذاكرة لنتسلّى بها، بل نوقظها كي لا نموت داخل غفلتنا.
هل تعرفون درية أحمد؟
هل مرّ اسمها في نشراتكم؟ هل تذكّرها أحدٌ في برامج السهرة؟ هل بكى أحدٌ حين غاب صوتها عن الأثير؟
درية أحمد لم تكن مجرد مطربة تغنّي، بل كانت ابنة الوطن التي وهبت صوتها لضحكة البنت الريفية، ونظرة الحُبّ الخجولة، وأنين الأرملة المكافحة، وفرحة الفلاح حين يرى زرعه أخضر.
درية أحمد لم تكن نجمة عابرة، بل كانت زهرة صدّاحة في بستان الفن المصري، زُرعت فيه بصدق، وسُقيت من نيل هذا الوطن.
هي أوّل من صدح بـ"يا حبيبي يا متيم بيا" بصوتها، قبل أن يعرفها الناس كأم للفنانة سهير رمزي. لكن الأمومة ليست مجدها الأول، بل كانت مجدًا لاحقًا أضاف إلى سيرتها، بينما ظلّ الفن هو الهوية الأصلية.
كانت تُغنّي للريف، لا لتكسب التصفيق، بل لأن قلبها يعرف الأرض، ويُصغي لنبض الفلاحة وهي تملأ الزير، ويحنّ لضحكة الأطفال في حضن الجُرن، ويشدو معهم كأنها أمّهم جميعًا.
درية أحمد لم تكن ابنة المهرجانات، ولا عابرة على سجاد أحمر، ولا وجهاً على "بوستر" دعائي، بل كانت نغمة مصرية تسري في الروح كالماء في الغيطان.
ورغم أنها ملأت الشاشات دفئًا، إلا أنّ الشاشات نسيتها، وتنكّرت لها كما تنكّرت لغيرها من الذين لم يخونوا الكاميرا، ولم يبعثروا إرث الفن في سوق الشهرة الزائفة.
أين هي درية أحمد من شاشات اليوم؟
هل أصبحت عبئًا على البرامج، أم أن صوتها لا يُناسب مؤثرات ما بعد الإنتاج؟
هل صار مكانها الطبيعي هو ذاكرة الشيوخ، فقط لأن الشباب لا يعرفونها؟
وهل أصبح الفن يُقاس بعدد المتابعين، لا بصدق التجربة ونُبل الموهبة؟
خليكوا شاهدين، لا على غيابها فقط، بل على جريمة نسيانها.
فالنسيان ليس عيب الذاكرة، بل خيانة الضمير.
والتلفزيون المصري، بكل صراحته، تخلى عن أبنائه الحقيقيين.
أهملهم، طواهم، لم يُعِد لهم الاعتبار، لم يُقدّم عنهم حلقات، ولا حتى لمحات.
وكأن من لا يملك صوتًا في "السوشيال ميديا"، لا يستحق أن يُخلّد.
لكننا نقول، وبالحبّ نقولها، وبالوجع: التلفزيون الذي لا يعرف أسماء أمهاته، لا يستطيع أن يكون أبًا صالحًا.
والمحطات الفضائية التي تتسابق على حفلات التكريم السطحية، وتنسى أن تحتفي بالذين صنعوا لبنات الشاشة الأولى، هي منصات بلا قلب، بلا أصل، بلا دم.
نحن لا نكتب مرثية، بل بيانًا من القلب.
نكتب لأن الوفاء لم يعُد عادة، بل مقاومة.
نكتب لأن أمثال درية أحمد يجب أن يُدرّسوا في معاهد الفن، لا أن تُنزع صورهم من الأروقة.
نكتب لأن مصر لا تنسى أبناءها، لكن بعض من يمسكون الميكروفونات اليوم، نسوا كيف يكون الوطن حين يُحبّ فنانوه من دون شرط.
نكتب لأن الشاشات التي لم تجد مكانًا لدرية أحمد في أرشيفها، قد وجدت ساعات طويلة لحوارات تافهة، وأغانٍ بلا مضمون، ومواهب مؤقتة تحترق بسرعة النسيان.
درية أحمد، يا وردة مصرية نبتت في زمن الصدق، سامحينا.
لم نأتك بوردة، لم نأتك بتكريم، لم نأتك بصور مُعادة، لكننا نحمل لك دمعة في القلب، ووفاء في الكتابة.
سنقول اسمك، وسنعيده، حتى يعرفك الصغار كما عرفك الكبار.
سنصرخ في وجه النسيان، سنطرق أبواب المسؤولين عن ذاكرة الوطن، سنطالب بأن يعود الفن إلى أصحابه، لا إلى من اقتحموا موائده فجأة.
ويا شاشة الوطن،
أعيدي أبناءك إلى حضنك.
أعيدي درية أحمد، لا كاسم في أرشيف، بل كصوتٍ في وجداننا، كقيمة في سجلّنا، كمحبّة لا تموت.
لا تتركي أرواح الفنانين الحقيقيين معلّقة بين الماضي والعدم.
ضعي لهم مقعدًا في الصف الأول، لا لأنهم نجوا من اختبارات العصر، بل لأنهم صنعوا روحه الأولى.
فمن لا يُكرّم ماضيه، لا يليق به المستقبل.
ومن لا يُخلّد صوته الحقيقي، لن يُسمع له حين يصرخ بالحق.
خليكوا شاهدين...
على درية أحمد، وعلى جيلٍ لم يخذلنا، لكننا خذلناه.