السفير د.عادل عيد يوسف يكتب: استثمارات الخليج طوق النجاة للاقتصاد الأمريكي

في عالم يسوده الاضطراب، وأمام اقتصاد عالمي يترنح فوق فوهة عجز مالي أمريكي متضخم، تعود الحاجة إلى اللاعبين الكبار ممن يملكون مفاتيح الاستقرار النقدي والمالي. وهنا، تتقدم دول الخليج العربي، ليس فقط كمورد للطاقة أو مستورد للأسلحة، بل كمصدر رئيسي محتمل للأمان المالي الذي قد تحتاجه الولايات المتحدة في عهد ترامب الثاني بشكل أشد إلحاحاً من أي وقت مضى.
مع دخولنا العام 2025، يقدر العجز الفيدرالي الأمريكي بنحو 1.9 تريليون دولار، في رقم يعكس حالة الإنفاق الحكومي المتسارع، والتوسع المحتمل في خفض الضرائب وزيادة الإنفاق الدفاعي. وإذا استمرت هذه الوتيرة، فقد يصل العجز إلى 2.7 تريليون دولار بحلول 2035 وفقاً لمكتب الميزانية في الكونغرس (CBO).
هذا العجز المهول يُترجم إلى حاجة فورية لتدفقات نقدية ضخمة، تتطلب من وزارة الخزانة الأمريكية إصدار سندات بقيمة تتجاوز تريليوني دولار سنوياً، وهو ما يجعل الولايات المتحدة في حاجة ماسة إلى مستثمرين كبار وحلفاء ماليين يمكنهم امتصاص هذا السيل من الديون.
هنا بالتحديد تبرز دول الخليج، التي لطالما كانت في قلب النظام المالي العالمي كمستثمر ذكي وحكيم. ومن خلال استثماراتها في السندات والأسواق الأمريكية، ساهمت هذه الدول في استقرار الاقتصاد الأمريكي، وخفض أسعار الفائدة، وحماية الدولار من تقلبات الأسواق.
لكن المثير للاهتمام اليوم، هو أن دول الخليج تملك فرصة تاريخية لتغيير معادلة القوى الاقتصادية العالمية، ليس عبر ضخ استثمارات في صفقات دفاعية ضخمة تمتد لعقود – والتي، رغم أهميتها، تذهب أرباحها في المقام الأول إلى شركات الصناعات الدفاعية الأمريكية – بل من خلال لعب دور الممول الاستراتيجي السيادي المباشر، عبر دعم سوق السندات الأمريكية بشكل مدروس ومنظم، ما يمنح الخليج دوراً غير مسبوق كلاعب محوري في أمن الاقتصاد الأمريكي نفسه.
وهنا تكمن القوة الحقيقية لهذا الدور...
فالاستثمار الخليجي في السندات الأمريكية لم يعد مجرد قرار مالي بحت، بل هو ورقة ضغط ذكية تضع دول الخليج في موقع المظلة الأمنية المالية لأكبر اقتصاد في العالم.
فكما أن الولايات المتحدة تمد المنطقة بمظلة أمنية وعسكرية، يمكن لدول الخليج أن تضع نفسها كقلب نابض للمظلة المالية الأمريكية، بحيث تصبح العلاقات الثنائية أكثر توازناً وندية، وتتحرر من الانحياز الأمريكي غير المعلن لإسرائيل، الذي طالما شكل اختلالاً استراتيجياً في موازين العلاقات.
بلغة أوضح... امتلاك دول الخليج لهذا السلاح المالي الناعم، يمنحها فرصة ذهبية لإعادة تعريف شراكتها مع واشنطن من منطلق قوة وندية وليس فقط من منطلق احتياج دفاعي أو حماية تقليدية.
وهذا لا يعني الصدام أو الصراع، بل بالعكس، يعني بناء توازن صحي وعقلاني في العلاقات الأمريكية الخليجية، يرتكز على قاعدة المصالح المتبادلة، ويضمن ألا تبقى العلاقة مرهونة فقط بمعادلات الدفاع أو بصفقات تسليح طويلة الأجل يتم سدادها على فترات تمتد لعقود.
الخليج يكتب معادلة جديدة للأمن الاقتصادي العالمي
إن تجارب التاريخ تؤكد أن الخليج لعب أدواراً مماثلة في مراحل الأزمات الكبرى:
• بعد أزمة النفط 1973، كان الخليج ركيزة إعادة استقرار النظام النقدي الدولي.
• وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية 2008، ضخ الخليج عشرات المليارات في الأسواق الأمريكية لحماية النظام المصرفي من الانهيار.
واليوم، ومع دخولنا عهد ما يمكن تسميته "ترامب الثاني"، يجد الخليج نفسه أمام معادلة جديدة أكثر حساسية وتعقيداً:
• من جهة، أمريكا تحتاج بشكل عاجل تدفقات نقدية مباشرة لتمويل العجز الهائل.
• من جهة أخرى، الخليج يملك من أدوات التأثير المالي ما يمكنه من فرض معادلة أكثر عدلاً في العلاقة مع واشنطن.
الأهم من ذلك، أن هذه اللحظة تحمل فرصاً استثنائية للخليج كي يعيد هندسة ميزان القوى داخل العلاقة الأمريكية الخليجية، ويجعل من الاقتصاد أداة دبلوماسية قوية تؤثر ليس فقط في الإدارة الأمريكية بل في مراكز القرار المالي والاقتصادي في نيويورك وواشنطن.
سيناريوهات المشهد المالي القادم
في هذا السياق، يمكن تصور عدة سيناريوهات:
• السيناريو الأول التحول نحو التمويل المباشر
الخليج يوافق على ضخ جزء من احتياطاته في شراء السندات الأمريكية بشكل مدروس ومنظم، مقابل تعزيز الاتفاقات السياسية والاستراتيجية مع واشنطن، وضمان توازن أكبر في العلاقة الإقليمية خاصة في مواجهة إسرائيل.
• السيناريو الثاني المراوغة الاستراتيجية
يستمر الخليج في دعم السندات الأمريكية بشكل انتقائي، مع الاستمرار في توظيف ورقة السندات كأداة ضغط تكتيكية.
• السيناريو الثالث التوجه نحو تنويع الشركاء
الخليج يقلل استثماراته في السندات الأمريكية تدريجياً، ويوجهها نحو الصين وأوروبا وآسيا، مما يشكل تحدياً كبيراً لواشنطن.
في كل الحالات، يظل الخليج لاعباً أساسياً في المعادلة، يمتلك من الذكاء المالي والجيو-استراتيجي ما يؤهله لتوظيف هذا الدور بمهارة، دون أن يدخل في مغامرات غير محسوبة.
الخليج لا يملك فقط أن يكون مخزون العالم من النفط والطاقة، بل بات يملك سلاحاً أكثر تأثيراً وأشد فتكاً: سلاح التمويل النقدي والاستثمارات السيادية.
وبينما تحاول واشنطن في عهد ترامب أن تبتلع المزيد من التزامات الدفاع والولاء، يستطيع الخليج أن يضع أوراقه المالية على طاولة الشطرنج الدولية، ليس فقط للدفاع عن مصالحه، بل لرسم صورة أكثر توازناً لعالمه وعالم أمريكا، وحتى ربما لإعادة توازن علاقة واشنطن المعقدة مع تل أبيب.
ومع أن البعض قد يرى أن هذه المعادلة تنطوي على مخاطر، إلا أن التاريخ يؤكد أن من يملك السيولة يملك القرار. ولا يمكن تجاهل أن الصين نفسها دخلت السوق الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية كلاعب صغير يعمل كذراع تصنيع رخيصة للولايات المتحدة، لكنها عبر عقود من الزمن، تحولت إلى العمود الفقري لصناعة أمريكا، حتى باتت الشركات الأمريكية اليوم غير قادرة على فك هذا الارتباط العضوي مع بكين رغم محاولاتها المستميتة. في هذا السياق، يمكن القول إن ضخ الأموال الخليجية في الأوردة الاقتصادية الأمريكية، سيتحول إلى معطى لا يمكن تجاوزه، وسيعيد تشكيل جزء من الخريطة الجيوسياسية للعقود القادمة، خصوصاً إذا ما استُخدمت هذه الورقة بذكاء استراتيجي بعيد عن ردود الفعل.
وفي النهاية، فإن الحنكة ليست في كثرة الصفقات، بل في إدارة السيولة كأداة دبلوماسية ذكية... وهو الدور الذي قد يكون بيد دول الخليج، لو أرادت.