مصطفى صلاح يكتب: بوسي شلبي.. بعيد عنك حياتي عذاب

بعيداً عنك، يصرخ قلبي في صمت قاتل، تُخنقني نوبات الحنين، وأشواك الذكرى تغرز أطرافها في روحي كما يغرز السهم في جسد الغزال المسكين. أنت، يا محمود، من كنت شمسي التي تشرق في أفق أيامي، ونور روحي الذي يزيل سواد الوجد، وها أنا اليوم، أترنح على أعتاب غيابك، أخطو وحيدة بين أنقاض الذكريات التي لا تبرح.
ذاكرتي، كالمهددة بحرائق الشوق، تحمل بين طياتها صورك كما حملت السماء نيازكها المشتعلة. تلك اللحظات التي جمعناها بوسي شلبي، كانت جواهر متناثرة في مسرح الحياة، كانت نسمات عشقٍ منقوشة في دفتر الزمن لا تنمحي، ولا يتبدد ضياؤها مهما اشتدت عواصف الفراق. كيف أروي لك قصة عشقنا وأنت في عالمك البعيد، وكيف أعبّر عن حسرتي التي تتلألأ في عيني كمرآة تتشظى؟
لقد هُزمت أسرتنا على مذبح الجشع، على مائدة المال التي كانت أشبه بمغارة العفاريت، تأكل بقايا المحبة، وتدوس على عهود الوفاء. المال، ذاك الوهم المتلثم، خاننا وأسرنا في شبكته العنكبوتية، فبدل أن يكون مصدر رزق وسعادة، صار ساماً يفتك بأوتار قلوبنا. كيف لقلبٍ نابض بالحب أن يصمد أمام تسلط الذهب؟ وكيف للوفاء أن يظل حياً وسط عواصف الطمع والخذلان؟
إنه كسر رهيب، طعنة عميقة تسربت إلى أعماق الروح، تقضي على بهجة الحياة وتترك الإنسان في بئر من الألم المدقع. أسرتنا التي كانت في يومٍ من الأيام واحة للحنان، تهاوت أمام زحف الأهواء، وتبدد العشق في سراديب المال القذرة، فصارت الأيام رماداً، والضحكات غباراً على نوافذ الماضي.
وها هي بوسي، ذلك القلب الذي كان ينبض مع قلبك، يُمزّقها وجع البعاد، وتغرق في ظلال الحزن المتلاحقة كالأمواج في بحر لا قرار له. عيونها تحمل مرآة الفقد، وابتسامتها كئيبة كأنها ترقص على أطلال فرحها الذي رحل بلا رجعة. الحزن في قلبها لا يبرح، يحلق في سماء وجودها كسرب من الغربان السود، يشنّ عليه طوفان الفراق كل صباح ومساء.
ذكراك، محمود، لا تفارقها، فهي صوتٌ يتردد في صداه قلبها، وكأنك تمشي بجوارها بين الأزقة المغبرة للذاكرة، تهمس في أذنها بأحلامٍ كانت، وبآهاتٍ دفنتها الأيام. تحيا بوسي في حضرة طيفك، تغزل من نسيج الألم قصة حبٍ أسطورية، لم يمت رغم تحطم سفينه على شواطئ النسيان.
تلك الصور التي كانت سجلاً للحب، صارت اليوم أوراقاً تدمعها الرياح، وكتاباً تكسوه صدأ الوحدة. كل لحظة تجمعكما كانت قنديلًا يضيء دربها، وكل همسة منك كانت بلسمًا لجراحها التي لا تندمل. والآن، هي تحتضن وجع الغياب، وترتشف مرارة الحنين في صمت يزأر تحت قبة السماء.
لقد أُسقطت أسرتنا في حفرة الفقر الروحي والوجداني، ليس بسبب نقص المال وحده، بل بسبب خيانة العهد، وانقضاض الطمع على نقاء العواطف. أسرتنا التي كانت معبراً للفرح، جُرحت وتداعى سورها تحت وطأة الطمع، فتبدد ضوء السعادة، وصار الألم سيد الموقف.
لكن، وسط هذا الخراب، لا تزال بوسي تنبض إنسانيةً، ووعياً بحجم الخسارة، وتلك إنسانية عميقة تُعيد ترتيب قواها كل صباح، محاولة أن تبني جسر الأمل فوق نهر الحزن العميق. في أعماقها، يبقى الحب هو الحكاية التي لا تنتهي، والصفحة التي لم تُطوى في كتاب حياتها.
لا تموت الإنسانية مع الألم، بل تُولد من جديد كطائر الفينيق، تحلق عالياً فوق رماد الذكرى، وتتحدى الليل الذي طال. بوسي، رغم كل ما ألمّ بها، هي امرأة تسكنها قوة الحنان، ورقة المشاعر، وصفاء النفس. تقاوم، تصارع، وتظلّ تحيّي في قلبها نداء الرحمة، وتزرع في جدار الألم زهور الفجر.
بعيداً عنك، يا محمود، صارت الحياة وجعاً لا يُحتمل، وقصة حبٍ باقية رغم كل الجراح، ورغم كل دمعة تذرفها بوسي في سكون الليالي. هي ليست مجرد حكاية فراق، بل هي ملحمة إنسانية تكشف عن سر الوجود، وحقيقة أن الحب، مهما قُهر، لا يندثر.
فليكن هذا المقال عزيزي القارئ، شاهداً على قدرة القلب البشري على التحمل، وعلى هزيمته أمام قوة المال، وعلى انتصاره حينما يحمل بين طياته الإنسان بكل ما فيه من إحساسٍ وحنينٍ لا يزول.
بعيداً عنك، حياتي عذاب، وحبك هو النور الذي لن ينطفئ أبداً، ولو غابت الأجساد وحلّ الظلام.