السفير الدكتور عادل عيد يوسف يكتب: أفراس النهر في غزة تزعج اسرائيل

في زمن تفيض فيه اللغة السياسية بالتلاعب، وتتبدل فيه المسميات لتجميل القبح و تُخفي النوايا، خرجت إسرائيل بمقترح لا يفتقر فقط إلى العدالة، بل إلى الحد الأدنى من المنطق. هيئة رسمية جديدة أعلن عنها مؤخرًا، تعنى بتنسيق ما تسميه «الخروج الطوعي» لسكان قطاع غزة نحو دول ثالثة، بدعوى تخفيف الأزمة الإنسانية وفتح الطريق أمام الإعمار. غير أن قراءة متأنية لهذا الطرح تكشف أننا لسنا أمام مبادرة إنسانية، بل أمام مشروع تهجير ممنهج، يدار بخطاب ناعم و يُروّج له بأدوات دبلوماسية مصقولة، لكنه في الجوهر إعادة إنتاج لمحاولات قديمة لإفراغ الأرض من أصحابها.
ما يزيد من خطورة هذا التوجه، هو التواطؤ السياسي الغربي، وفي مقدمته الموقف الأمريكي، الذي بات يمارس سياسة قائمة على ما يمكن وصفه بـ«اللا منطق» الكامل. تصريحات لافتة لمسؤولين أمريكيين تعلن أن غزة "غير صالحة للحياة"، وأن التهجير المؤقت، ولو قسرا، قد يكون الحل الوحيد للسماح بإعادة الإعمار. و بعيدًا عن المفارقة الأخلاقية في أن مَن يدمر اليوم يتحدث غدًا عن ضرورة إعادة الإعمار، فإن هذا المنطق، إذا جاز تسميته منطقا، يشكل ذروة التناقض السياسي: إزاحة النقاش من حق تقرير المصير، إلى الحديث عن تحسين شروط النزوح.
في خضم هذا العبث، لا يمكن للمتابع إلا أن يستحضر تلك القصة الرمزية التي طالما روى التاريخ صداها: حاكم الهكسوس «أبو فيس» يبعث برسالة إلى الملك سقنن رع، يشكو فيها من أصوات أفراس النهر في طيبة! شكوى عبثية، لا غرض منها سوى استفزاز، ولا منطق لها سوى التضليل. لم يكن «الضجيج» سببا حقيقيا، بل ذريعة لفرض الهيمنة وسلب الأرض. واللافت أن الخطاب نفسه، بمنطقه الساخر، يتكرر اليوم: الولايات المتحدة تشكو من واقع غزة، و تدعي أن بقاء السكان في أرضهم بات خطرا، و تُلمّح إلى أن السلام يبدأ بتهجيرهم، ولو مؤقتا.
سياسة اللا منطق التي تحكم هذا الطرح، تقوم على تجاهل جذور المشكلة: الاحتلال، الحصار، والعنف الممنهج ضد المدنيين. وتعيد صياغة النقاش العام لتركّز على «المسارات الإنسانية»، لا المسارات السياسية، يستبدل الحديث عن إنهاء الاحتلال، بتحسين ظروف النزوح. هذه المقاربة تمثل شكلا جديدا من الهندسة السياسية للصراع، لا تعالج جذوره، بل تعيد توزيع ضحاياه جغرافيا، وفق مصالح القوى الفاعلة.
في مواجهة هذا المشهد المقلوب، جاء الموقف المصري ثابتا و متماسكًا. فقد رفضت القاهرة صراحة هذا المخطط، واعتبرت أي محاولة لتهجير سكان غزة – تحت أي مسمى – انتهاكا سافرا للثوابت الوطنية، و مساسا مباشرا بالأمن القومي المصري. هذا الرفض، الذي تجاوز البيانات الدبلوماسية المعتادة، يعبر عن وعي عميق بتداعيات هذه السياسات على استقرار المنطقة، ويكشف عن قراءة استراتيجية ترى في تهجير الفلسطينيين مشروعا لإعادة تشكيل الإقليم خارج أدوات القانون والشرعية.
لكن مواجهة هذا التوجه لا تكتمل برفض مصري منفرد، بل تتطلب حراكا دبلوماسياً عربيا منسقا، يعيد توجيه البوصلة إلى جوهر القضية الفلسطينية، ويمنع الانجراف خلف النقاشات الجانبية. المطلوب اليوم، بوضوح، هو:
إعادة التأكيد على حل الدولتين كمسار وحيد لحل الصراع، ورفض أي محاولة لتجاوزه عبر سياسات «التهجير الطوعي».
فتح حوار مباشر مع الإدارة الأمريكية لتفكيك هذا الطرح، وكشف تناقضاته القانونية والأخلاقية.
تدويل المسألة داخل أروقة الأمم المتحدة والهيئات الدولية، من خلال التلويح بخطورة تغيير التركيبة السكانية، واعتباره خرقا واضحاً لاتفاقية جنيف الرابعة.
بناء تحالفات دولية متوازنة خارج الدوائر التقليدية، تشارك مصر رؤيتها الواقعية القائمة على العدالة والاستقرار، لا على التهجير وإعادة التوطين.
إن التهجير، حين يقدم تحت شعار «الطوعية»، يكون أخطر من التهجير القسري الصريح، لأنه يغلّف الإكراه بغلاف الخيارات. وما يطرح اليوم ليس خيارا، بل تصفية سياسية مقنعة، تضع سكان غزة أمام معادلة واحدة: غادروا كي تعيشوا، و ابقوا كي تموتوا.
وهنا، يستحضر الضمير الوطني المصري، لا شعبيا فقط بل رسميًا، روح سقنن رع. ذاك الملك الذي لم يتعامل مع شكوى «أبو فيس» باعتبارها مضحكة أو مستفزة، بل فهم رسالتها العميقة: حين يشتكي من أفراس النهر، فالمقصود هو إخماد طيبة نفسها. واليوم، حين تشتكي غزة من قبل القوى الكبرى، فالمقصود ليس إعمارها، بل طمسها.
إن التاريخ، وإن اختلفت أدواته، لا ينسى أن العبث في الجغرافيا يبدأ دائمًا بمنطق مشوه، وأن الصمت على "اللا منطق" هو أول الطريق نحو الكارثة. ولعل اللحظة الراهنة تتطلب أكثر من موقف سياسي؛ إنها تستدعي استراتيجية عربية واضحة، تستند إلى العقل لا إلى العاطفة، وإلى القانون لا إلى القوة. لأن ما يراد لغزة اليوم، قد يراد لسواها غدًا، وما يمنح للمنطق المشوه اليوم، قد ينتزع من الحق غدًا.
وإن كانت أفراس النهر قد أزعجت الهكسوس يومًا، فإن صوت غزة – رغم الألم – يجب أن يبقى عاليا، كصوت للتاريخ لا يمكن إسكاته.