مصطفى صلاح يكتب: أبناءٌ وقتلة.. حين يُذبح الوفاء على مذبح الطمع

حين يُذبح الوفاء على مذبح الجحود، وحين يختلط الحُب بالألم، يتساقط الإنسان كما تتساقط أوراق الأشجار في فصل الخريف. في تلك اللحظات التي يظن فيها البعض أنهم يمتلكون الحقيقة، يأتي الأمل الذي لا يموت ليبقى رغم محاولات القتل.
الوفاء ليس مجرد كلمة تُقال، بل هو عمل يومي نُقدمه من قلوبنا لمن نحبهم. وقد علمنا ديننا الحنيف أن "أوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولًا". وفي قلب هذا العهد، نكتشف أن الوفاء لا يُشترى ولا يُباع، بل هو نابع من القلب، مجردًا من الطمع والجشع.
لكن في حياة البعض، يتحول الوفاء إلى حجر ثقيل، يصبح حمله أثقل من أن يُحتمل. في تلك اللحظات العصيبة، نجد أن الوفاء أصبح شيئًا نادرًا، بل في بعض الأحيان يصبح هو المذنب في نظر البعض. فكيف لو كانت هذه الحكاية تروي قصة حبٍ صادق، جُعلت بعد وفاته أداة للتشويه؟
لم تكن هي يومًا لتطلب شيئًا سوى أن تظل قريبة، أن تظل في مكانها في قلبه كما كانت طوال السنوات، دون أن تُطالب بشيء آخر. لقد أحبته كما هو، الرجل الذي كان يختبئ وراء ضحكاته أمام الكاميرات، لكنه في قلبها كان أكثر من مجرد نجم؛ كان إنسانًا، وكان في أعماقها الأمان.
لم تكن تبحث عن ميراث، ولم تطلب شيئًا سوى أن تبقى وفية له، حتى في غيابه. ولكن ماذا عن أولئك الذين كانوا أبناءه؟ هل كانوا كذلك بحق؟ هل كانوا يقدرون هذا الوفاء؟ أم أنهم باعوه مع أول فرصة سنحت لهم للحصول على المال، أو تلميع صورتهم في أعين الآخرين؟
ألم يعلموا أن الميراث لا يكون فقط مالًا، بل هو العهد والذكريات التي لا تُقدر بثمن؟
لقد ظهروا، في لحظة ضعف، يسعون وراء نصيبهم، كما لو أن الدنيا لا تحمل في طياتها إلا ما يمكن جمعه من الأموال. لم يلتفتوا إلى قلوبٍ تقطعت حزنا، لم يدركوا أن الوفاء هو الميراث الحقيقي الذي لا يتسع لأيديهم الجشعة.
وفي وقتٍ كان يمكنهم فيه إظهار الرحمة، اختاروا الجحود. وفي الوقت الذي كان يمكنهم فيه الحفاظ على صورة أبيهم كما كانت، اختاروا أن يلوثوها بحب المال. وإنها لَحقًا مفارقة مؤلمة، أن أبناءه هم من ألقوا به إلى النسيان، بينما كانت هي، الزوجة التي خدمته في مرضه، التي حفظت صورته ونزلت مع ذنبها إلى الحزن.
فكم هو قاسي أن يتحول الحب إلى سيفٍ يقطع الرقاب، وأن تتحول الذكريات إلى أكوام من الأحجار التي تُلقى في وجه من ظل يحبهم طوال عمره. فالحب الحقيقي لا يطمع في شيء، بل هو كالنهر الذي يروي الأرض دون أن يطلب مقابلاً.
في لحظة خيانة هذا الوفاء، تتراكم الجروح. جروحٌ في القلب، حيث الألم أعمق من أي جرح مادي. كيف يمكن أن نجد تبريرًا لتلك الأفعال التي لا تستحق سوى اللوم؟ كيف يمكن أن نغفر لأشخاص أنكروا الإنسان الذي أوجده الله فيهم، ولم يقدّروا قيمة العطاء والتضحية؟
"قُتلَ الأب، وها هم الآن يقتلون ما تبقى من حُبه، ومن ذاكرة الأمل التي تركها وراءه". لا بأس، قد يظنون أنهم كسبوا، لكن الحقيقة أن هؤلاء الذين فقدوا إنسانيتهم في لحظة ضعف سيشعرون يومًا ما بما فقدوه.
وفي النهاية، لا يمكننا أن ننسى أن الله لا يظلم أحدًا. وأن في حسابه العادل يُجازى كل شخص حسب نيّته وعمله. فالبقاء على الوفاء ليس مسؤولية الآخرين، بل مسؤولية من اختار أن يكون وفيًا. وقد تكون هذه الحكاية درسًا لكل من يظن أن الميراث هو المال فقط. الحقيقة أن الميراث الأسمى هو "الحب" و"الصدق"، والأخلاق التي تظل خالدة حتى بعد رحيل من نحب.
إلى أن يأتي الوقت الذي يُسألون فيه عن أعمالهم، سيظل هو، صورة إنسانية رائعة، وذاكرة حبّية نقية، بينما سيظل الذين ارتضوا أن يقتاتوا على مال الدنيا فقط يعيشون مع سراب لن يروي عطشهم يومًا.
إلى أن يلتقي الجميع في محكمة الحق، تبقى الحقيقة واحدة: الوفاء لا يُقاس بما في اليد، بل بما في القلب.
(يا أيها الذين آمنوا، لا تظلموا أنفسكم)، ولا تظلموا في لحظة ضعف وحزن من حافظ على حبكم طوال الزمن.