السفير د.عادل عيد يوسف يكتب: أشرف مروان.. و أبطال الظل

في أزمنة الجفاف الأخلاقي، تحترف بعض الدول صناعة الأسطورة بقدر ما تتقن تزوير التاريخ. هكذا خرج علينا الإعلام الإسرائيلي مؤخرًا، ليحتفل بشكل استعراضي بما سموه “استعادة أوراق الجاسوس إيلي كوهين”، في مشهدٍ فاتر المحتوى، بارد الدلالة، أراده نتنياهو صورة نصر معنوي، فسلّم لزوجة كوهين خطابًا بلا مضمون، سوى الحنين إلى وهم البطولة.
ولكن بين سطور هذا المشهد المفتعل، ينهض سؤال أشد فتكًا: إذا كان كوهين رمزًا استخباراتيًا لإسرائيل، فماذا عن أشرف مروان؟ لماذا لا تحتفي به إسرائيل كما فعلت مع غيره؟ أليس منطقهم نفسه يدينهم هذه المرة؟
أشرف مروان، ذلك الاسم الذي ظل مجهولًا داخل أرشيف المخابرات الإسرائيلية لأكثر من ثلاثين عامًا، لم تجرؤ اسرائيل على ذكره، أو حتى الإشارة إليه ضمن قائمة من خدموها. كل أبطالهم يكرَّمون: من عزام عزام إلى هبة سليم إلي تمثال إيلي كوهين في تل أبيب، بينما مروان لم ينَل خطاب شكر، ولا حتى تصريحًا رسميًا، وكأنهم يخشون الاعتراف بحقيقة خدعته.
ولأن الذاكرة لا تُقصى بالقوة، فإن أول ظهور لمروان في المشهد العام جاء بطريقة رمادية: تلميحٌ في كتاب صدر عام 2002، لتنفجر بعده زوبعة إعلامية ضخمة، تُوّجت بفيلمٍ مثير للجدل بعنوان “The Angel” على منصة نتفليكس. الفيلم، في طرحه المعلن، يظهر مروان كجاسوس متطوع لدى إسرائيل، ذهب برجليه إلى سفارتهم في لندن، وعرض خدماته. ولكن رغم كل ما طرحه، فإن القصة لم تنتهِ عند هذه الزاوية.
بل سرعان ما تلته وثائقية أخرى أكثر توازنًا، تحولت إلي فرضية العميل المزدوج بشكل جاد، مشيرة إلى أن المعلومات التي قدّمها مروان – وإن كانت تبدو صحيحة – إلا أنها كانت دائمًا منقوصة، دقيقة في التوقيت ولكن ضبابية في التفاصيل. وبالنظر إلى السياق، فإن هذه الطريقة هي من صميم “فن التضليل الاستخباراتي” المعروف عالميًا والذي خبره الرئيس الراحل أنور السادات مع الحلفاء الروس في زرع العميل المزدوج.
وهنا يظهر الأهم: إشارات التشكيك لم تأت من الخارج فقط، بل من الداخل الإسرائيلي ذاته. إيلي زعيرا، رئيس الاستخبارات العسكرية في حرب 1973، لم يصمت، بل أعلن بوضوح أن مروان كان عميلاً مزدوجًا، يخدم مصر أولًا. لم تمضِ أيام، حتى وجد نفسه مُقالًا، مطرودًا من منصبه، وكأنما نطق بما لا يجب أن يُقال.
ثم جاءت لجان التحقيق، محاولة إسرائيلية للتأكد إن كانوا قد خُدعوا، ولكنها انتهت إلى صمتٍ ثقيل، ورسالة غير مباشرة مفادها: “فلنُغلق الملف قبل أن يحترق بنا”.
وفي قلب هذه المتاهة، يظهر الرجل في صورته الحقيقية: قريبًا من السادات، شريكًا في دائرة القرار، جزءًا من الخطة، لا من الخيانة. لم يكن أي فرد عادي، بل رجل يطّلع على القرارات الاستراتيجية، لا يمكنه التحرك أو التصريح بمعلومة إلا بضوء أخضر من أعلى المستويات فهل يستطيع هذا المقرب السفر قبل الحرب بأيام الي لندن لتسريب موعد الحرب.
وعلى عكس من يبيعون أنفسهم للخارج طلبًا للثروة أو النجاة، رفض مروان كل عروض اللجوء أو العمل الاستخباراتي الغربي. لم يهرب، لم يتاجر، بل عاش في هدوء، حتى قُتل بهدوء. سقط من شرفة منزله في لندن، قبل أيام فقط من نشر تقرير بريطاني رسمي حول أدواره. وكأن أحدًا ما، أراد أن يغلق الصفحة، قبل أن تُفتَح على فضيحة.
أما الدليل القاطع، فهو ليس وثيقةً ولا شهادة، بل صوتٌ حيّ من قلب التاريخ. في خطابه أمام الكنيست عام 1977، يقول الرئيس أنور السادات، وبكل وضوح: “إن قرار زيارتي للكنيست لم يكن يعلم به أحد، حتى مساعدي الخاص لم يكن على دراية وقد سأله ماذا تفعل ان وجّهت لك الدعوة لاسرائيل فاجاب سأقبلها علي الفور ” هل بعد هذا تحتاج إسرائيل إلى دليل؟ الحقيقة تخرج من فم الزعيم، في قلب عرينهم، وتقول: “الرسائل التي كنتم تعتقدونها مسروقة انما هي فعلا رسائل موجهه ”
دًُفن أشرف مروان في تراب مصر الطاهر، بجنازة رسمية، وقف فيها كبار رجال الدولة، بصمتٍ مهيب، واحترامٍ نادر. تكريم لا يُمنح إلا لمن عرفته الدولة جيدًا، ومن خدمها بصمت، وأتقن فن التضليل كما يُتقن القادة فن القرار.
إن مروان ليس لغزًا كما يريدون، بل مرآة تعكس فشلهم في اختراق العقل المصري. هو “بطل الظل”، كما وصفه أحد القادة، وليس خائنًا كما حاولت تل أبيب أن ترسمه. ولعلنا نكتب اليوم لا دفاعًا عنه، بل تأكيدًا على أن من يخدع عدوه حتى يظنه صديقًا، هو بطل حقيقي… لا تصنعه الشاشات، بل التاريخ.